تبادل الأطباق بين الأسر الجزائرية تقليد يقاوم التحولات الاجتماعية

الغلاء وتراجع الإمكانيات المعيشية يعوقان استمرار عادة "التذوق".
السبت 2023/04/08
تقاليد متجذرة في العادات الجزائرية

عرفت العائلات الجزائرية بتقليد أسري يزداد انتشارا خلال شهر رمضان هو تبادل أطباق المأكولات التي تعد بعناية ودقة حتى تنال إعجاب المرسلة إليها. ويرمز هذا التقليد إلى التوادد بين الأسر وينتشر بصفة خاصة في العاصمة الجزائر وتحديدا في أحيائها السكنية العتيقة وأزقتها الضيقة. ويتكفل الأطفال عادة بنقل الأطباق التي يتبادلها الجيران.

الجزائر - دأبت الأسر الجزائرية على تبادل الأطباق الغذائية خلال المواسم والمناسبات الاجتماعية المختلفة، للتعبير عن التضامن والتماسك فيما بينها، والحفاظ على عادة عريقة تدعى “التذوق”، غير أن التحولات المستجدة تدفع باتجاه الانغلاق والعزلة، لأن الغلاء وتراجع الإمكانيات المعيشية، صارا عائقا أمام استمرار تبادل الأطباق فيما بينها.

وتعكف ربات البيوت على التبرع بطبق من أشهى ما طبخن لجارة أو قريبة.

وإذا تمت رؤية صبي أو بنت تحمل طبقا بين يديها، وهي تسرع الخطى قبل صوت آذان المغرب لإيصاله إلى قريب أو جار أو عائلة معوزة خلال شهر رمضان، فذلك هو تقليد تبادل الأطباق وعادة “التذوق” الموروثة عبر الأجيال.

المشهد يأخذ رمزية أكثر في الأحياء العتيقة المعروفة بنمطها العمراني المميز بالتصاق المباني والأزقة الضيقة

ولا تخلو الأحياء والعمارات في مختلف المدن والأرياف الجزائرية من هذه الحركة لحظات قبل إعلان الإفطار، لتؤكد تماسك وتضامن الأسر الجزائرية فيما بينها، وممارسة سلوك الإيثار على النفس، لأنه عادة ما يكون الطبق المتبرع به من أشهى وأثمن ما تطبخه ربة البيت.

وإذ لا يمكن الانتباه إلى مثل هذا السلوك خلال الأيام العادية لعدم ارتباط مواعيد الأكل والشرب بتوقيت محدد، فإن الظاهرة تبرز بشكل لافت أثناء الشهر الفضيل، الذي تحاول الأسر الجزائرية التماهي مع جوه الروحاني وطقوسه الموروثة، رغم تأثر المستوى المعيشي العام بظروف الغلاء وتراجع القدرة الشرائية.

ويأخذ المشهد رمزية أكثر في الأحياء والمساكن العتيقة المعروفة بنمطها العمراني المميز بالتصاق المباني والأزقة الضيقة، كما هو الشأن بأحياء القصبة في العاصمة، والضواحي العمرانية الموروثة عن الحقب التاريخية القديمة في الكثير من المدن الجزائرية كتلمسان والطارف ومداشر منطقة القبائل.

ويقول كمال (12 عاما) من حي القصبة بالعاصمة “كلما شعرت أن مطبخنا يحتوي على أكلة مميزة أو طبق فاخر، أكون متأكدا ألا أبتعد عن البيت، لأن الوالدة ستحتاجني لحمل صحن منه لجارتنا التي تقابلنا في المسكن، فأنا أعرف أن العلاقة الطيبة بين العائلتين منذ أن صرت أدرج في الشارع ترسخت بهذه المعاملة، وكثيرا ما فتحت باب البيت على وقع دقات صديقي وهو يحمل إلينا طبقا من أشهى ما طبخت أمه”.

عادة التضامن الاجتماعي والتكافل بين الناس في الشهر الكريم يحملان الكثير من الأوجه، بداية بما يعرف بـ”مطاعم عابري السبيل”، المعروفة في مختلف الأحياء بالعاصمة، إلى تخصيص أرباب بيوت من الفئات الميسورة لإفطار منتظم في بيوتهم لعدد من الأفراد عادة ما يكونون من عمال الورشات البعيدين عن أسرهم، خاصة من الجنسيات الأفريقية المسلمة، أو يحملون الإفطار يوميا لهؤلاء في مواقع إقامتهم، فضلا عن عمل متطوعين وناشطين على تنظيم موائد ثابتة في الطرقات والأماكن العامة.

ويبقى تقليد تبادل الأطباق سلوكا مميزا ينم عن روح الإيثار والتبرع بالأفضل وتمتين العلاقات الاجتماعية الثنائية والجماعية، فكما يمكن لربة بيت أن تذيق جارتها مما طبخت، يمكن لها أن تستقبل طبقا من جارتها، وهنا ليس من باب سد الحاجة وإنما للتأكيد على المكانة المميزة في النفس، لأن الطبق المتبادل عادة ما يكون من ألذ وأشهى ما طبخ.

تشارك في إعداد طعام الإفطار
تشارك في إعداد طعام الإفطار

ويقول الطفل كمال إن “تبادل الأطباق ليس عملا يوميا ثابتا، بل هو مناسباتيا عندما يكون طبق الإفطار مميزا، وعادة ما يكون في عدد محصور من الجيران والأقرباء، فكما تأخذ طبقا لغيرك تستقبل طبقا من طرفه، والأطفال في الغالب هم من يتكفل بهذه المهمة”.

وبذلك يمثل تبادل الأطباق الرمضانية مع الجيران والأصدقاء والمعارف إحدى الميزات الحميدة لساكني تلك الأحياء، فتجعل من شهر الصيام لديها جوا مميزا، تغمره روح التكافل والتواصل، والعطاء والإحساس بالود بين أسره وأفراده.

وتحرص ربات البيوت على الوفاء لهذا التقليد بغية الحفاظ على هذه العادة الاجتماعية، وتوريثها للأجيال الصاعدة، فعادة ما تكون كمية إضافية خلال إعداد الإفطار من أجل التبرع بصحن منه لجار أو قريب.

كل ربات البيوت في الجزائر تعكف على التبرع بطبق من أشهى ما طبخن لجارة أو قريبة

وحسب السيدة فاطمة من حي القصبة بالعاصمة، فإن “تبادل الأطباق عادة ما يكون في الأكلات التقليدية أو الثرية، كالكسكسي، واللحم الحلو، والملوخية وحتى الحلويات التقليدية، ولذلك يقترن بـ’التذوق’ لتأكيد مدى المكانة التي يحفظها السكان لبعضهم البعض”.

ويرى حميد سلطاني (70 عاما) المعروف بـ”عميد” حي “لاصاص”، في بلدة برج منايل شرقي العاصمة، أن “هذه العادة الحميدة تشعر الجميع بقربهم من بعضهم البعض، مما يجعلهم متمسكين بها مع مواكبتها مع ظروف الحياة العصرية”.

ويضيف “عندما يطرق باب المنزل قبل موعد الإفطار أشعر بالغبطة، لأنني أدرك أن الطارق هو ابن أخي حاملا طبقا من اللحم الحلو، فتبادل الأطباق في رمضان من العادات التي تبرز أكثر في الأحياء الشعبية والعتيقة في عموم البلاد”.

ويلفت إلى أنه يحرص شخصيا على ألا تقتصر هذه العادة على الجيران والأقارب فقط، بل يجب أن تمتد لمن يعانون ظروفا صعبة ويحتاجون إلى اهتمام الآخرين بهم ومساعدتهم.

15