"دولرة" الرواتب في لبنان.. حل مؤقت للموظفين وأزمة دائمة للمركزي

بيروت – بعد الإنذار الذي وجهه المتقاعدون من الجيش وقوى الأمن باستئناف الاحتجاجات على انخفاض رواتبهم ما لم يوفر المصرف المركزي حلا، اتخذت الحكومة اللبنانية القرار بـ”دولرة” رواتب الموظفين على أساس سعر صرف يبلغ 60 ألف ليرة للدولار. وهو ما يوفر للموظفين زيادة تبلغ الثلث في رواتبهم، ولكنه يستهلك المزيد من الاحتياطات الناضبة للمصرف المركزي.
وتوفر “الدولرة” زيادة كبيرة نسبيا للرواتب حيال سعر صرف رسمي يبلغ 90 ألف ليرة للدولار، وأكبر بكثير حيال سعر صرف في السوق الحرة يبلغ 140 ألف ليرة. وتضمن استقرارا أكبر وتحدّ من المضاربات.
وكان وفد من متقاعدي الجيش والقوى الأمنية بلبنان التقوا بحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة عقب المظاهرات التي نظمها المتقاعدون وممثلو الموظفين الحكوميين في ساحة رياض الصلح بمحيط مجلس الوزراء اللبناني وأمام مصرف لبنان المركزي الأسبوع الماضي.
وحصل الوفد الذي ضم العمداء السابقين جورج نادر وسليم طوق ورياض إبراهيم، على وعد من سلامة ببحث مطالب المحتجين مع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي ووزير المالية يوسف الخليل.
90
في المئة من السكان يكسبون دخلهم بالليرة اللبنانية، والعائلات التي تتلقى أموالاً من أقاربها في الخارج تنفق الكثير منها لدفع تكاليف الكهرباء وتغطية النفقات الطبية
وطالب المحتجون بقبض معاشاتهم بالدولار، على أساس سعر صرف يبلغ 28 ألف ليرة للدولار. ولكن موجودات المصرف لم تكن لتسمح لا بإنفاق ما بقي من احتياطات، ولا باقتصار تطبيق “الدولرة” على المتقاعدين من الجيش وقوى الأمن وحدهم.
ويمتلك المصرف المركزي نحو 10 مليارات دولار من الاحتياطات. ولديه ما يعادل نحو 17 مليار دولار من الذهب الذي بقي صامدا حتى في أسوأ أيام ظروف الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1989. وما لم يتوفر سبيل فعلي للخروج من الأزمة الراهنة، فإن قرار الحكومة ووزارة المالية بـ”دولرة” الرواتب يعني السير على الطريق السريع للإفلاس الشامل.
ويقول مراقبون إن “الدولرة” تعني المزيد من الانهيار لليرة اللبنانية، وربما خروجها الكلي من التداول، بالنظر إلى سعة طبقة الموظفين والمتقاعدين، وكذلك لأن عمليات التسعير بالدولار في الأسواق المحلية التي اتخذت طابعا عاما منذ مطلع مارس الماضي تسحق ما تبقى من قيمة العملة المحلية.
ويبلغ عدد موظفي القطاع العام 320 ألف موظف ويشكلون 25 في المئة من حجم القوى العاملة في لبنان. كما أن هناك 120 ألف متقاعد يشكلون عبئاً إضافياً على الخزينة، وتتكلّف الدولة 12 ألف مليار ليرة سنوياً كلفة رواتب للقطاع العام.
ويقول الباحث في شركة “الدوليّة للمعلومات” محمد شمس الدين إن “حجم إيرادات الدولة الذي يقدّر بـ13 ألف مليار ليرة سنوياً بات يتم تحصيل منه اليوم قرابة الـ6 آلاف مليار ليرة فقط”.
وبذلك فان “دولرة” رواتب 440 ألف موظف ومتقاعد سوف تعني 200 مليون دولار شهريا. وبينما تنفق الحكومة ما يعادل 4 مليارات دولار سنويا، فان “الدولرة” سوف تعني تراجع الاحتياطات بحلول نهاية العام الجاري إلى أقل من 5 مليارات.
ويقول مراقبون إن الموظفين والمتقاعدين سوف يحصلون على حل إلا أنه حل يطرق أبواب الإفلاس العام بالنسبة إلى المصرف المركزي.
وما لم تجد البلاد مخرجا من الأزمة بانتخاب رئيس جديد وتنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، فإن المصرف لن يجد سبيلا لشراء المزيد من الوقت إلا ببيع احتياطاته من الذهب.
وأما ممتلكات الدولة من الأراضي والعقارات التي كانت تعد الوسيلة الأخيرة المتبقية لإعادة جدولة الديون وتغطية الودائع، فإنها لن تعود مساوية لقيمتها التقديرية، إذا ما دخلت البلاد في أجواء الانهيار الشامل.
وهناك وجه آخر لـ”الدولرة” يضاعف التفاوت الاجتماعي في البلاد. إذ يقول سامي زغيب الخبير الاقتصادي ومدير الأبحاث بمركز أبحاث “The Policy Initiative” في بيروت إنَّ “الدولرة” يمكن أن تعطي انطباعاً باستقرار مالي أكبر، لكنها ستزيد أيضاً من التفاوتات الاقتصادية الهائلة بالفعل. ويضيف “لدينا طبقة اجتماعية تستطيع الوصول إلى الدولارات، ولديك شريحة أخرى من السكان تكسب دخلها بالليرة اللبنانية، لكنها تشهد الآن دخلها يتدمر بالكامل”.
ووفقاً لمسح أجرته منظمة العمل الدولية ووكالة الإحصاء التابعة للحكومة اللبنانية عام 2022، فإن أكثر من 90 في المئة من السكان يكسبون دخلهم بالليرة اللبنانية. والعائلات التي تتلقى أموالاً من أقاربها في الخارج تنفق الكثير منها لدفع تكاليف الكهرباء وتغطية النفقات الطبية.
الموظفون والمتقاعدون سوف يحصلون على حل إلا أنه حل يطرق أبواب الإفلاس العام بالنسبة إلى المصرف المركزي
ويقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي سامي نادر إن نظام “الدولرة” كان يجب اعتماده لوقف طبع العملة الذي فاقم التضخم على حساب المستهلك ولصالح التجار والمضاربين وشبكات تهريب البضائع بين لبنان وسوريا. وهو ما ساهم في تراجع احتياطات المصرف المركزي بسبب سياسات دعم الليرة.
وفي ظل التأرجح بين دعم الليرة ورفع الحد الأدنى للأجور فإن عجز المصرف المركزي عن مواصلة الدعم، حرصا على احتياطاته، أدى في النهاية الى تلاشي الفائدة من رفع الأجور.
و”الدولرة”، بحسب الخبراء الاقتصاديين، تعني من ناحية أخرى، إقرارا من جانب المصرف المركزي بالأمر الواقع. ولكنها تعكس أيضا استسلاما من جانب حاكم المصرف بأنه لا يجب أن يرهن قراره بانتظار حلول سياسية توفر الانفراج فترفع قيمة الليرة وتعيد لها مكانتها في التعاملات اليومية.
ويتعين على الدولة الآن أن توفر أموالا جديدة لتدعم احتياطاتها بالدولار. وهناك طريق واحد لذلك، بحسب خبراء صندوق النقد الدولي، هو تنفيذ الإصلاحات، ليس من أجل الحصول على قروض جديدة فحسب، ولكن من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني ليسترد أنفاسه.
ودون ذلك فلا القروض سوف تتوفر، ولا الاقتصاد سيسترد أنفاسه. وتفتح “الدولرة” من الناحية الواقعية فصلا جديدا في الأزمة، إذ أن الدولة نفسها لم تعد تحكم على المسار الذي يتخذه الاقتصاد، وهي لم تعد تملك من السيادة إلا القليل.