المعركة حول روح إسرائيل

تواجه إسرائيل أكبر خطر منذ إنشائها، ليس من قبل قوة معادية إقليمية وإنما من الداخل، بقيادة مجموعة فاسدة إلى حد كبير من الشخصيات السياسية ويرعاها مجرم مستعد لتدمير الدولة هربًا من العدالة.
من غير المفهوم أن مستقبل إسرائيل معلق الآن في الميزان بسبب رئيس وزراء مجرم وفاسد أخلاقيا ويبدو أنه لا يهتم بالدولة التي يتوق إليها اليهود منذ آلاف السنين وأكثر من أجل النجاة بجلده.
ويعتبر تصميم بنيامين نتنياهو على إخضاع المحكمة العليا والقضاء بشكل عام لأهواء السياسيين بمثابة انقلاب. ويجب الإطاحة به بأي وسيلة سلمية وديمقراطية.
وتشهد المظاهرات المستمرة والمتنامية، التي يقو بها مئات الآلاف من المحتجين على خطته المحفوفة بالمخاطر، بوضوح على أخطر مخاوف معظم الإسرائيليين الذين يخشون أن تكون بلادهم على شفا التفكك. ونتنياهو يخون الفرضية الكامنة وراء قيام دولة إسرائيل ويجب إيقافه قبل فوات الأوان.
الأكثر خطورة هو كيف ستؤثر محاولة إصلاح القضاء على العلاقة الخاصة بين اليهود في أنحاء العالم وإسرائيل
ويقف الإسرائيليون الآن عند مفترق طرق مصيري ذي أبعاد تاريخية ستحدد مستقبل إسرائيل ذاته بينما تتسبب في تداعيات بعيدة المدى على علاقات يهود العالم بدولة إسرائيل. فهل ستبقى إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية وشاملة، وملاذًا لأي يهودي بغض النظر عن ميوله الأيديولوجية والدينية والجنسانية والجنسية، وهو ما يريده أغلب الإسرائيليين ويسعون إلى الحفاظ عليه؟ أم ستكون دولة استبدادية يحكمها متعصبون دينيون وأحزاب صهيونية قومية متطرفة مصممة على التمسك بزمام السلطة بأي ثمن وتشكيلها على مقاس رسالتهم المسيانية والتخلي عن تطلعات يهود العالم في أن تكون لديهم دولة مستقلة وديمقراطية وعادلة وشاملة؟
ولتحقيق مخططه الشرير لشل القضاء، شكل نتنياهو تحالفًا حقيرًا بحيث أنه إذا نجا وُترك الأمر لرغباته وإرادته فإنه سيلحق ضررًا شديدا بإسرائيل على عدد من الجبهات الحاسمة: إنه سيدمر بشكل فعال مبادئ إسرائيل الديمقراطية، سيقوض بشدة حقوق الأقليات، سيعجل بطريقة غير مسبوقة نزيف العقول، وسيوقف هجرة اليهود إلى إسرائيل بينما تتزايد الهجرة من إسرائيل، وسيجفف الاستثمار الأجنبي وسيدفع
الشركات الناشئة إلى الخروج من البلاد بأعداد كبيرة، سيدمر الاقتصاد ويزيد من تعميق الفقر وإدامة الاحتلال وتكثيف العنف إن لم يكن الحضّ على حرب مع الفلسطينيين، وإقصاء حلفاء إسرائيل، وخاصة الولايات المتحدة، ومنع أي احتمال لسلام إسرائيلي – فلسطيني.
ولكن الأكثر خطورة من أي عاقبة من العواقب المدمرة المحتملة المذكورة هو كيف ستؤثر محاولة حكومة نتنياهو المشؤومة لإصلاح القضاء على العلاقة الخاصة بين اليهود في جميع أنحاء العالم وإسرائيل؟ لطالما استند تقارب المجتمعات اليهودية مع بعضها البعض على مر القرون إلى اليهودية التي احتوت التجارب التاريخية والتقاليد والقيم المشتركة إلى جانب التجارب والمحن المستمرة التي تعرضت لها الكثير من المجتمعات اليهودية.
وكان تجمع اليهود من كل ركن من أركان العالم، بغض النظر عن ميولهم الدينية سواء أكانت أرثوذكسية أو إصلاحية أو محافظة وبغض النظر عن بلدهم الأصلي، هو العمود الفقري ولا يزال إلى حد كبير سبب وجود إسرائيل. فإذا استطاعت حكومة نتنياهو الحالية أن تشق طريقها، فسوف تمزق بشكل لا رجعة فيه تلك الرابطة ذاتها وتدمر التقارب العميق والنسيج الأخلاقي الذي كان يربط اليهود معًا على مر القرون.
ومعظم اليهود في جميع أنحاء العالم هم من الإصلاحيين أو المحافظين، وعلى الرغم من أنهم يحترمون المؤسسات الدينية في إسرائيل، إلا أنهم لا ولن يتصلوا بإسرائيل إذا أصبحت شبه ثيوقراطية محليًا، أي دولة صهيونية قومية متطرفة ظاهريًا، وقوة محتلة تجعل البلد أي شيء سوى بلاد ديمقراطية.
ومن المؤكد أن إسرائيل، التي وصفتها رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بلوسي بـ”معجزة القرن العشرين”، ستصبح دولة منبوذة ودولة ميز عنصري في القرن الحادي والعشرين يعيش شعبها ويموت حاملا السلاح.
ورئيس إسرائيل إسحاق هرتسوغ، الذي يمتنع عادة مثل أسلافه عن المشاركة مباشرة في الخطاب السياسي الداخلي، يائس الآن من إنقاذ البلاد من المسار المحفوف بالمخاطر الذي اختاره نتنياهو. وحذر هرتسوغ من أن البلاد “على وشك الانهيار الدستوري والاجتماعي”، وربما هي على مشارف “صدام عنيف”.
إن مقترحات الإصلاح القضائي، إذا سُمح لها بالمرور، ستضعف المحكمة العليا وتسلم الكثير من السلطة إلى الائتلاف الحاكم، وتزيد بشكل كبير من احتمال قيام حكومة سلطوية.
الحكومة الفاشية تحت الحصار بسبب الخلافات والنزاعات المتزايدة بين أحزاب التحالف وداخلها، وقد تنهار قبل نهاية سنة
ولا يغيّر شيئا ادعاء نتنياهو أنه فاز في انتخابات حرة ونزيهة مع شركائه في الائتلاف وأنه بالتالي لديه التفويض الممنوح له من قبل غالبية الناخبين الإسرائيليين لتمرير القوانين بأغلبية بسيطة في الكنيست وإصلاح القضاء. نتنياهو متعمد ماكر ومخادع. إن إصلاح القضاء ليس مجرد مشروع قانون آخر مثل تلك القوانين التي تتعامل مع الميزانية أو الاعتمادات العسكرية أو البنية التحتية.
إن دور القضاء وسلطة المحكمة العليا في وضعها الحالي جزء لا يتجزأ من القوانين الأساسية لإسرائيل؛ حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فنظرًا إلى خطورة الإصلاحات المقترحة وآثارها بعيدة المدى لا يمكن لحكومة نتنياهو ببساطة تعديل سلطة المحكمة العليا أو التخلص منها دون إجماع وطني، إما عن طريق استفتاء أو باتفاق بين الحكومة والمعارضة. هذا مهم بشكل خاص لأن مثل هذه الإصلاحات المفترضة لن تمكّن الكنيست بأغلبية بسيطة من تجاوز أي حكم صادر عن المحكمة العليا فحسب، وإنما الأهم من ذلك أنها تزيل أي ضوابط وتوازنات ومساءلة عن الحكومة التي هي في قلب ديمقراطية إسرائيل في ضوء حقيقة أن إسرائيل ليس لديها دستور مكتوب.
وستزيل إصلاحات نتنياهو المزعومة بشكل فعال العقبات التي تمنعه من سن تشريعات تمكنه من الإفلات من العدالة في محاكمته الجارية بشأن الفساد. وفي الواقع لا يمكن لأحد أن يأخذ على محمل الجد ادعاءه بأن المقترحات ليست لمصلحته الشخصية، فمن الواضح أنها كذلك. لكنهم مدفوعون أيضًا بالأحزاب الدينية التي صمم قادتها المتعصبون على إخضاع كل ما يتعلق
باليهودية لأهوائهم.وبالإضافة إلى السلطة التي تمارسها الحاخامية الرئيسية التي يسيطر عليها الأرثوذكس في إسرائيل منذ إنشاء إسرائيل، والتي تشمل الزواج والطلاق والنفقة، يريدون الآن سيطرة أكبر على الحياة اليهودية في إسرائيل من شأنها أن تعرقل بشدة ممارسة الكثير من الإسرائيليين للشعائر اليهودية مثلما يرونها مناسبة.
وسيشمل ذلك حقوق المرأة وحرياتها التي سيتم تصنيفها يهوديةً وحظر جميع الأعمال غير الضرورية يوم السبت، والتمييز ضد الأشخاص المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والذين يستطيعون أو لا يستطيعون الصلاة عند حائط المبكى، هذا من بين العديد من القوانين القديمة الأخرى غير المقبولة تمامًا لمعظم اليهود العلمانيين.
وعلاوة على ذلك، تكمن سخافة ونفاق اليهود الأرثوذكس المتطرفين في أنهم بينما كانوا يريدون فرض إرادتهم على جميع الإسرائيليين، طالبوا بحقوق خاصة تعفي الشباب اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، وقد حصلوا على ذلك. وبمرور الوقت ستشبه إسرائيل إيران وأفغانستان بشكل متزايد أكثر من الديمقراطيات الأوروبية.
وحتى الآن رفض نتنياهو وشلّته الاستجابة لدعوة الرئيس هرتسوغ إلى إعادة النظر في إصلاحاته القضائية التي قدمها والتي قبلتها أحزاب المعارضة. ورفْض نتنياهو الدخول في محادثات جادة لن يترك للجمهور خيارًا سوى الاستمرار في الخروج إلى الشوارع بمئات الآلاف، الأمر الذي قد يتضخم إلى مليون أو أكثر.
وأوضح جنود الاحتياط في القوات الجوية والاستخبارات ومشغلي الطائرات دون طيار أنهم لن يتقدموا إلى الخدمة إذا تم تمرير هذا التشريع، الأمر الذي سيضيف بُعدًا جديدًا للأزمة لم تواجهه إسرائيل من قبل.
وإذا استمر نتنياهو في رفض تغيير المسار وتعليق الإجراءات، يجب على الجمهور الإسرائيلي أن يدعو إلى عصيان مدني على مستوى البلاد تتبعه إضرابات عامة ستؤدي بالبلاد إلى التوقف التام.
وعلى الجانب الإيجابي، حتى لو لم يلجأ الجمهور إلى مثل هذه الإجراءات المتطرفة، تجد هذه الحكومة الفاسدة والفاشية نفسها بالفعل تحت الحصار بسبب الخلافات والنزاعات المتزايدة بين أحزاب التحالف وداخلها وقد تنهار قبل نهاية سنة.
وفي التحليل النهائي، الإسرائيليون في معركة مصيرية من أجل روح الدولة ذاتها. ولا يمكن للمتظاهرين أن يترددوا أو يختلفوا في مواقفهم لأن مصير إسرائيل ويهود العالم متشابك. والكيفية التي ستنتهي بها هذه المعركة ستحدد ما إذا كان بإمكان اليهود أن يحكموا أنفسهم ويحافظوا على الرابطة الفريدة والألفة بينهم التي كانت السر وراء بقائهم لآلاف السنين.