العرب يحتاجون إلى أفكار نيتشه لتمجيد النسيان والنجاة من الشيخوخة

من يوجه ذاكرته باستمرار إلى الماضي لن يستطيع أن يعيش سعيدا.
الأحد 2023/03/19
فيلسوف آمن بضرورة النسيان

ما زال نيتشه أكثر الفلاسفة المؤثرين فكريا في التاريخ البشري، وما تزال أفكاره وسائل تحرر وتمرد يتوسل بها الكثيرون اليوم ضد ما يواجه الإنسان المعاصر من حصار وقمع وأوهام. ومن أبرز أفكار نيتشه التي يبدو أن العرب بحاجة إليها اليوم، رأيه في التذكر والنسيان.

إن جدلية الذاكرة والنسيان من أهم القضايا الفلسفية الشائكة التي طالما أرّقت الفلاسفة على مر التاريخ، ففي الفلسفة اليونانية استطاع أفلاطون أن يربط المعرفة بالتذكر والجهل بالنسيان.

أما في الفلسفة الحديثة فقد استطاع جون لوك أن يعلي من شأن الذاكرة إذ اعتبرها محددا أساسيا لهوية الشخص. لكن نيتشه وكعادته قلب المعادلة حيث أعاد الاعتبار للنسيان واعتبره شرطا أساسيا لسعادة الفرد والمجتمع، من هذا المنطلق نتساءل أي علاقة بين الذاكرة والنسيان في المتن النيتشوي؟ إذا كانت السعادة هي الغاية المثلى التي طالما بحث عنها الإنسان فهل تحقيقها مرتبط بالتذكر أم النسيان؟ ألا يمكن أن نتحدث داخل هذا المتن عن إمكانية خلق توازن بين العنصرين؟

السعادة بين الذاكرة والنسيان

يعتقد نيتشه أن الحيوانات تعيش سعيدة أكثر من الإنسان؛ لأنها تحيا بشكل “لاتاريخي”، فهي تعيش الحاضر كما هو ولا تخفي شيئا، فالكائنات مثل هذه لا يمكن أن تكون إلاّ صادقة، لأنها الأكثر قدرة على النسيان.

◙ نيتشه يعتقد أن الحيوانات تعيش سعيدة أكثر من الإنسان لأنها تحيا بشكل "لاتاريخي" أي تعيش الحاضر كما هو

أما الكائن البشري فيمكنه أن يتجاوز بعضا من ذكرياته من أجل سعادته، لكنه غير قادر على نسيان كل ماضيه، فمثلا الطفل عند ولادته لا يبالي بشيء فينغمس في اللعب ولا يستحضر أي شيء في ذهنه إلاّ ما هو عليه؛ لأن هذا الطفل لا يعرف شيئا عن ماضيه حتى يقول “إنني أتذكر”، لكن لا يمكن لهذا الطفل أن يستمر على هذا الحال، بل سيتم إخراجه في وقت مبكر من حالة النسيان إلى حالة التذكر، ليصبح كائنا محكوما عليه بالشقاء.

 فلما كانت السعادة هي التي تدفع الكائن الحي إلى الحياة، ولما كان الرجوع المستمر إلى ذكريات ماض هي مصدر الشقاء للإنسان، فإن النسيان – كما يعبر عن ذلك نيتشه – هو “ملكة الإحساس اللاتاريخي طوال ديمومة السعادة”، وكل من هو في الحاضر ويُرجع ذاكرته باستمرار إلى الماضي فلن يستطيع أن يعيش سعيدا، بل أكثر من ذلك فهو يستطع أن يتسبب في شقاء الآخرين. هكذا فإن الحياة السعيدة مصدرها النسيان وليس الذاكرة. لكن ألا يمكننا أن نحقق توازنا بين الذاكرة والنسيان؟

يؤكد نيتشه أن “اللَّاتاريخي” و”التاريخي” ضروريان لصحة الفرد والمجتمع والثقافة؛ فالنسيان بهذا المعنى هو الذي يجعل الذاكرة تنير جزءا من “التاريخي” وتترك الجزء الآخر في طيّ النسيان، الشيء الذي يعني أن الذاكرة تتفاعل مع الماضي بشكل انتقائي، لأن الحديث عن الإنسان ككائن محكوم بماضيه يختلف عن الحيوان الذي لا تربطه أيّ علاقة بهذا الماضي، فالنسيان هنا أو “اللاّتاريخي” لا يقصد بهما “فقدان الذاكرة” كما لا يقصد بالتاريخي طغيان الماضي على الحياة، وبالتالي فالنسيان المطلق والحضور القوي للذاكرة يشكلان خطرا على حياة الفرد بل أكثر من ذلك على حياة المجتمع والحضارة.

نستطيع أن نقول إن اهتمام الجينيالوجي بالتاريخ الذي طالما عبّر عنه فريدريش نيتشه يختلف تماما عن الاهتمام بجوهر وذاتية التاريخ كما هو الأمر في الفلسفات الميتافيزيقية
حينما تبحث عن العلة الأولى، فمنذ البداية ونيتشه يفرّق بين الحيوان والإنسان من خلال معطيي الذاكرة والنسيان، وذلك لكون الإنسان كائنا تاريخيا بامتياز، له ذاكرة مستمدة من الماضي، عكس الحيوان الذي يعد كائنا لاتاريخيا لاعتبار أنه كائن دون ذاكرة، لذلك فإن مهمة الفيلسوف هي التفكير في التاريخ بشكل نقدي كي يساعد الإنسان في الانفتاح على الحياة، لكن كيف يمكننا أن ننظر إلى التاريخ بشكل نقدي؟

مرض التاريخ والعلاج النيتشوي

◙ المدارس تقتل غريزة المعرفة
المدارس تقتل غريزة المعرفة

 يحضر التاريخ في المتن النيتشوي بثلاث صور؛ فمن جهة نجد “التاريخ الأثري” وهو يتعلق بحنين البشر إلى موطنهم الأصلي وجذور هوياتهم وهو مبنيّ أساسا على مفاهيم مثل “الإخلاص” و”الوفاء” مما يقف أمام تطور الإبداع، يقول نيتشه حول هذا التاريخ إن “التاريخ الأثري هو القناع الذي يرتديه غير القادرين على الانسلاخ منه على كبار زمنهم، فهو القناع الذي يحاولون تقديمه مثل تعبير عن الإعجاب المشبع بعظماء زمنهم. إن هذا القناع يسمح لهم أن يغيروا المعنى الحقيقي لهذا التصور عن التاريخ إلى معنى مناقض تماما”.

من جهة ثانية يتحدث نيتشه عن “التاريخ العادياتي” الذي يتطلب العودة إلى الماضي الشامخ الذي يحظى باحترام، إن هذه العودة تدعو إلى استلهام أمجاد الماضي ووقائعه وذلك من أجل السمو بالحاضر إلى درجة الماضي وهذا ما يعبر عنه نيتشه حينما قال “إن المعنى العادياتي لإنسان ولمدينة ولشعب بكامله يمتلك أفقا محدودا؛ فهو ليس بإمكانه رؤية أغلب الأشياء، والقليل مما يراه يبصره عن قرب، وبشكل منعزل”. ومن محاسن هذا التاريخ أنه قادر على أن يحافظ على الحياة لكن من مساوئه أنه غير قادر على خلقها لذلك فهو يعوق اتخاذ قرار قوي لصالح كل ما هو جديد.

 أما من جهة ثالثة فالإنسان يحتاج إلى جانب “التاريخ الأثري” و”التاريخ العادياتي” إلى شكل آخر من التاريخ وهو “التاريخ النقدي” الذي يعني به إخضاع الماضي للمساءلة والنقد، إذ أن الحياة تحاكم الماضي عندما يطغى على الحاضر “فكل ماض يستحق الحكم عليه؛ فهذا واقع الأشياء الإنسانية التي غالبا ما تكون محكومة بالضعف والقوة الإنسانيين، إنها ليست العدالة من تحاكم وتحكم، ولا حتى الرحمة من تنطق هنا بالحكم، ولكنها الحياة وحدها، إنها تلك القوة، أي تلك القوة المعتمة والدافعة”.

يمكن القول إن صناعة التاريخ عند نيتشه تنبع أساسا من الحاضر، وهذا يرجع دون شك إلى الأهمية التي يعطيها للحياة التي تشكل عصب التاريخ حيث لا قيمة لهذا إذا لم يكن في خدمة الحياة، وكل ذلك من أجل بناء الجديد الذي لا يمكن أن يكون إلا نقدا لطغيان الماضي على الحياة. لكن كيف يمكننا تربية الأجيال القادمة من أجل الانفكاك من طغيان الماضي على حاضرهم؟

◙ الموقف النيتشوي تمكن من تفكيك مفهوم التاريخ وتحويل ثوابته إلى متغيرات معيدا الاعتبار إلى ملكة النسيان

إن طغيان “الثقافة التاريخية” على الحياة – كما يعتقد نيتشه – هو نوع من الشيخوخة التي تبدأ مع الولادة، ويؤكد أن الذين يتسمون بسماتها يصلون إلى الاعتقاد الراسخ بشيخوخة البشرية، ومن بين مميزاتها – هذه الشيخوخة – النظر إلى الوراء، وتقييم الماضي واستخلاص النتائج والبحث عن عزاء في ما كان عبر الذكريات. حسب نيتشه فإن المصاب بحمى التاريخ أو يمكن أن يظهر له غريبا ولكن لا يحق له أن يظهر متناقضا لأن من طبيعة الإنسان – كما سبق القول – وأن يتعامل مع التاريخ بانتقائية، مثل هذه الذاكرة هي التي يسميها بول ريكور “الذاكرة الجريحة” التي تجعل الإنسان حزينا عندما يسيء استعمالها.

إن الإنسان الألماني في نظر نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من كائن تاريخي لكونه مقلدا ووريثا لقوى ارتكاسية. وهم (الألمان) يعتقدون أنهم جاؤوا متأخرين فهؤلاء سيعيشون حياة ساخرة؛ لأن الفناء يقتفي عن كثب سيرة حياتهم. ويستند نيتشه في ذلك على قول فاكر ناغل الذي يفيد أن الألمان مهما فعلوا سيظلون مجرد خلف وذلك رغم إيمانهم وعلومهم المتفوقة، هكذا فإن التباهي بالحداثة والعصر الجديد يحمل في أحشائه بذورا من الذكريات المستمدة من ماض لاهوتي سحيق.

ويبدو أن هناك احتجاجا نيتشويا وصل حد التمرد على طبيعة التربية التاريخية للشباب السائدة في ألمانيا، هذه التربية التي تغلّب الذاكرة على الحياة، مطالبا بتعلم الحياة قبل كل شيء، على اعتبار أن التاريخ الذي لا يستطيع أن يقدم شيئا للحياة لا معنى له وتستدعي الضرورة التخلي عنه، فالشباب هم من يستطيعون أن يفهموا هذا الموقف.

 إن المؤسسات التعليمية هدفها هو قتل غريزة المعرفة والإبداع في الشباب المتعلمين فتحولهم إلى شيوخ قبل الوقت، في هذه المؤسسات “ستربي الشباب على معرفة ما الثقافة ولن يتعلموا ما الحياة وتجربة الحياة، وسيتم زرع علم الثقافة في رؤوسهم على شكل علم تاريخي، ما يعني أن أدمغتهم ستمتلئ بكمية كبيرة من المفاهيم المأخوذة من المعرفة غير المباشرة للحقبة الماضية والشعوب الغابرة وليس من التجربة المباشرة للحياة”، فهذا النوع من التربية يجعل الشباب أسرى الماضي وتحكم عليهم بالشيخوخة المبكرة وتصيبهم بتخمة التاريخ، هذا ما جعله يعود لينتقد بشدة التربية في ألمانيا حينما يصف الألمان بأنهم شعب “بلا تربية” بل أكثر من ذلك فقد أصبحوا “عاجزين” عن الحياة. إذا كان ما يصاب به الإنسان حين تطغى عليه الذاكرة هو مرض التاريخ، فما هو العلاج الذي يقدمه نيتشه لهذا المرض؟

يرجعنا نيتشه إلى ما انطلقنا منه حينما يقترح “اللاّتاريخي” الذي يعني به الفن والقدرة على النسيان و”الفوق – تاريخي” الذي يعني به القوى التي تحول نظرنا عن المصير باتجاه ما يعطي الوجود طابع الخلود، إن هذا المقترح هو البديل الحقيقي والترياق الطبيعي ضد غزو التاريخ للحياة وضد الحمى التاريخية، ويضع في الشباب ثقة كبيرة لأنهم هم الذين يرغبون في ثقافة وإنسانية أكثر شجاعة وجمال، ولا ينفي نيتشه حجم المعاناة التي يعانيها الشباب أثناء مجابهتهم هذا الطغيان. إن هؤلاء الشباب الذين يشبههم نيتشه “بقتلة الثعابين” يمتلكون من صحة وقوّة وأمل ما يكفيهم لينتصروا للحياة والإبداع ضد الثقافة التاريخية التي تهيمن على الحاضر وتكبّله. لكن ما الذي يمكننا أن نستفيد نحن من هذا الموقف النيتشوي؟

نيتشه والواقع العربي

◙ التذكر ضد السعادة
التذكر ضد السعادة

إن تعامل المجتمعات العربية مع ذاكرتها يحتاج إلى نقد جذري، لأن هذا التعامل يجعل من الإنسان العربي “كائنا تاريخيا” بالمفهوم النيتشوي، مما لا ريب فيه أن الماضي العربي سيطر على الحاضر مما سبب الضعف والجمود وعدم الاستطاعة على خلق بديل جديد أو حتى معنى آخر للحياة، هكذا أصبح الإنسان العربي خاضعا للتقاليد وتقيده الأعراف وتخلق منه إنسانا لا يرغب في عيش الحاضر والانطلاق نحو المستقبل.

إن هذا الإنسان هو الذي وصفه مصطفى حجازي بـ”الإنسان المقهور” الذي “يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والأعراف بدل التصدي للحاضر والتطلع إلى المستقبل”، فهو إما ينصرف من الحاضر عبر الارتماء في أحضان الجماعات الصوفية ساعيا إلى “الزهد” مثلا، أو يرجع إلى الماضي من أجل الاحتماء بأمجاد أجداده أو بأيامهم السعيدة، وخلال عملية الرجوع هذه يتم تزيين الماضي من خلال طمس عثراته والمبالغة في تضخيم حسناته، هكذا يتحول الماضي إلى عالم من “السعادة” و”الهناء” و”المجد” و”الاعتبار”. كما يتم إلغاء الزمن من خلال اختزال الديمومة إلى أبعاد الماضي فقط “الحياة هي الماضي وحده ولا شيء غيره. أما الحاضر فهو القدر الخائن الذي يجب ألا يقف الإنسان عنده، أما المستقبل فلا يدخل في الحسبان”، أليس هذا هو مرض التاريخ الذي تحدثنا عنه؟ ألا يحتاج هذا الكائن إلى تشخيص؟ أليس هو في حاجة إلى “اللاّتاريخ” و”الفوق – تاريخ”؟

هناك احتجاج نيتشوي وصل حد التمرد على طبيعة التربية التاريخية للشباب وطغيان "الثقافة التاريخية" على الحياة

إننا في حاجة إلى الفن والقدرة على النسيان كما نحتاج إلى قوى الإبداع – لا إلى قوى الاتباع – التي تحول نظرنا عن المصير باتجاه ما يعطي الوجود طابع الخلود حتى ننفك من طغيان الماضي على حاضرنا، وصحيح كذلك أن الطاقات الشابة المفعمة بطاقة الإبداع والحيوية هي القادرة على أن ترجع للحياة معناها، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فنحن في حاجة إلى التاريخ النقدي من أجل إخضاع ماضينا للمساءلة والنقد من أجل أن نحشد هذه القوى خدمة للحياة والمستقبل، في الأخير فإن الذاكرة التي تقتل الحياة لا معنى لها كما أن النسيان الذي لا يفيد الحياة لا معنى له.

تتجلى قيمة الموقف النيتشوي في قدرته على تفكيك مفهوم التاريخ وتحويل الثوابت فيه إلى المتغيرات، كما استطاع أن يعيد الاعتبار إلى ملكة النسيان من خلال إقامة التوازن بين “التاريخي” و”اللاتاريخي” خدمة للحياة، إنه شبيه في ذلك بما فعله سيغموند فرويد عندما أعاد الاعتبار إلى “اللاّوعي”، كما حطم نيتشه كل المرتكزات والمفاهيم التي قامت عليها فلسفة التاريخ التي تهدف إلى الانحناء أمام قوة التاريخ، ولكن موقف فريديريك نيتشه له محدوديته أيضا حينما ننتقل به إلى المستويات السياسية والحقوقية، من هنا سنطرح سؤالا مفتوحا، كيف يمكن لشعب عاش الاستبداد والحرمان والقمع في ظل أنظمة مستبدة أن ينسى هذا كله؟

 

• ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

8