نساء كادحات بريشة التونسية شروق بلحاج صالح

فضاء اللوحة يتحول إلى احتفاء بمن همشتهن الحياة.
السبت 2023/03/11
المرأة العاملة بطلة اللوحة

تعمل الفنانة التشكيلية التونسية شروق بلحاج صالح على قراءة الواقع والالتزام بقضايا بنات جنسها، لذلك رأت في النساء الكادحات مادة ثرية يمكن أن تخلق منها لوحات تحرر الجسد الأنثوي وتعيد تشكيله في لوحات تجريدية رمزية أطلقت عليها عناوين مستوحاة من الوسط الأنثوي التونسي.

ريم غانم

صور ولوحات بأشكال متداخلة وأحجام مختلفة وبتقنيات مزدوجة على القماش كانت رؤية الرّسّامة التونسية شروق بلحاج صالح في معرضها التشكيليّ الثاني المعنون بـ”كادحات” والملتئم في الفضاء الثقافي “سانت كروا” بالمدينة العتيقة في تونس. وقد افتتح منذ أواخر فبراير ليكون وجهة فنّية مميّزة يُعييك فيها السؤال كلما أقبلت على تدبّر إحدى لوحاته السّتّ عشرة المفعمة بالشّغف والرّغبة في تجاوز المألوف.

ويعتبر "كادحات" المعرض الشّخصيّ الثّاني في رصيد الرّسّامة بعد معرضها الأول بدار الثقافة بنابل والمقام سنة 2021، اختارت له من العناوين "حكايات" وضمّنته رؤية فنّية تستلهم "الحكائيّ القصصي" وتضفي عليه تصوّراتها ليخرج للنّاظر لوحات ينعتق فيها المحسوس من كل قيد ليُعيد تشكيل الجسد النسائي الأيقونيّ مُقترنا بأطياف وحشرات ورموز تنطلق من الواقع اليوميّ المعيش والمتخيّل وإليه تعود مُحمّلة برؤى نقديّة.

وقد اختارت الرّسّامة لكلّ لوحة من “كادحات” عنوانا ينسج معها شبكة علاقات تتّضح حينا وتتلبّس بالغموض أحيانا أخرى. كما أنها جمعت بين أحجام مختلفة للوحات مع انحيازها للصّور الكبيرة والمجّزّأة منها الثّنائيّة والثّلاثيّة وصولا إلى اللوحة المتكوّنة من ستّة أجزاء متكاملة. وتقنية التّجزئة هذه قد كانت في اعتقادنا وسيلة غموض وإمعان في التّجريد والتّرميز.

سيميائيّة العنوان

مغامرة "الكادحات" تعبيرات مختلفة، متباينة ومتواشجة فيما بينها. يعكس جماعها انشغالا مؤرقا بالبحث في الواقع الاجتماعي المتخيل
◙ مغامرة "الكادحات" تعبيرات مختلفة، متباينة ومتواشجة فيما بينها

يعتبر العنوان إحدى ركائز عمليّة التلقّي في الأدب والفنّ وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالتلقّي البصريّ. فهو يمثّل البنية الصّغرى الأكثر جاذبيّة للنّاظر ومن خلالها يتسنّى له تدبّر التركيبة الإبداعيّة للّوحة المعروضة.

ورغم أنّها قد اختارت عناوين لوحاتها وبسطتها كجواز عبور أوّليّ لمن يروم فكّ المغالق وتحصيل لحظة انتصار على القتامة التي اجتاحت أغلب الأعمال، فإنّ الرّسّامة شروق بلحاج صالح قد نجحت في جعل العناوين بؤر نظرِ وإعادة نظرِ رغم اختزالها وارتباطها برؤية شموليّة تحتكم إليها الرّسّامة في كلّ مشاريعها. وستكون البداية بعنوان المعرض: "كادحات" هو انتصار جندريّ للمرأة حيثما كانت باعتبارها كيانا إنسانيّا مقاوما وصامدا، ينضح جمالا ووجعا في الآن ذاته.

"كادحات" كما تبوح بذلك معروضاته هو لحظات مخصوصة، بسيطة ويوميّة تلتقطها أعيننا في الشوارع أوفي المصبّات، في أريافنا البعيدة أثناء مواسم الحصاد فيها وأيّام العولة وساعات الغزل والنّسج. نساء كادحات، مكابرات ومجاهدات من أجل لقمة العيش واستمراريّة لوجودهنّ في الرّيف والمدينة وفي تلك العوالم القصيّة للنفس البشريّة.

صور مختلفة في لحظات متباعدة التقطتها عين الرّسّامة وجعلتها محامل رمزيّة لما ارتأته من نضال في سبيل المرأة المهّمّشة التي تكابد صروف الدّهر وتُطبّب جروحها بروحها حتّى تَطيبَ وتظلّ شامخة رغم المحن.

أمّا عناوين اللّوحات فهي رغم إيجازها نوىً تدور في فلك الاحتفاء بالمرأة الكادحة المهمّشة مثل: “حطّابة” و”للّاهم” و”حصّادة ” و”كادحة” و”بين الشّوارع” و”الحديث والمغزل” و”عوّالة ” و”هائمة ” و”ولاّدة ” و”دوّار اللّيل” و”تمثّلات” و”عتاب” بالإضافة إلى “لوحة دون عنوان”. وأغلب العناوين مؤنّثة دلالة على أنّ الجسد الأيقونيّ للمرأة يمثّل مدارها وإليه المنتهى. لندرك بأنّ الرّسّامة قد اختارت توريط النّاظر في لعبتين ملغزتين: اللّوحة وعنوانها خاصّة إذا كان الطّابع التجريديّ الترميزيّ الغالب على ريشتها.

وكانت أغلب لوحات المعرض تمثّلات فنّية مركبة تجمع بين تصوّرات مختلفة للجسد الأنثوي مُفردا، ثنائيّا وجمعا. وقد اقتنصت الرسامة أوضاعا متعدّدة له في الجلوس والوقوف، في بحثه عن الفتات وتحويله إلى خبز يوميّ يقتات منه، في الواجهة وفي الصور الخلفيّة، بالحجم الصغير، المتوسّط والكبير. تشكيلات متعدّدة لهذا الجسد وفي أوضاع حياتيّة مختلفة وبحركات ثابتة ساكنة أو مرتحلة متحرّكة في الزمان والمكان والذّهن.

◙ الرسامة اختارت لكل لوحة من "كادحات" عنوانا ينسج معها شبكة علاقات تتّضح حينا وتتلبّس بالغموض أحيانا أخرى

وقد أخضعت الرّسّامة هذا الجسد لفلسفتها الخاصّة، فحافظت على كُلّيّته أحيانا وأجرت فيه تقنية التّجزئة في بعض اللوحات مقتطعة منه الرّأس أو اليد أو الوجه في أوضاع تشدّ النّاظر إليها. كما استغلّت صفتي الاستدارة والعمق كي تُشكّل بهما الرّحم في أكبر لوحاتها المعنونة بـ”ولاّدة” رمزا للولادة والتجدّد وإحياء لأسطورة الخلق.

وفي بعض اللوحات يُعاضد تمثل الحيوان أو الأطياف حضور الجسد الأنثويّ ليغيب الوضوح وتحضر الفنتازيا فتتحوّل المرأة إلى جسد هلاميّ منتشر على امتداد الفضاء أوفي خلفيّة اللوحة خطوطا متعامدة أو دائريّة منحنية، تنفرج في مواضع وتنغلق على ذواتها في مواضع أخرى موحية بالعمق المأساوي النّاجم عن جعل التّخييل سبيلا للتّعبير عن وجع النّساء المهمّشات ومعاناتهنّ اليوميّة.

فلسفة تشكيل الألوان

◙ التشكيلات تمثّلات متنوّعة تستند إلى مفهوم المغامرة ورفض السّائد
◙ التشكيلات تمثّلات متنوّعة تستند إلى مفهوم المغامرة ورفض السّائد

لندرك أنّ كلّ هذه التشكيلات هي تمثّلات متنوّعة تستند إلى مفهوم المغامرة ورفض السّائد. وتتأتّى هذه المغامرة في جعل الرّسم لعبة تُخاض على محامل مختلفة تشترك في جعل الجسد ثيمتها وديدنها. فأغلب اللوحات قد انغلقت على عوالمه وتوشّحت بتفاصيله وتوّجته منتصرا على كل القوى التي جعلته مهّمشا.

وتتجسّد هذه المغامرة في لعبة الألوان أيضا. ولعلّ القتامة البارزة قد كانت السّمة التي ميّزت كلّ اللّوحات وأثارت فينا السؤال لندرك أنها توجّه فنّيّ اختارته الرسّامة شروق بلحاج صالح وتأثّرت به في إطار تقنية "دُوّار اللّيل" التي تدرّبت عليها في تربّص تكوينيّ أجرته في الأكاديميّة الملكيّة للفنون ببلجيكا.

وتستند هذه التقنية على مفهوم المغامرة والاستناد إلى طقوس معيّنة في الرّسم كالإضاءة الخافتة والسّكينة وتعزيز الطّاقة التّخيليّة وانتهاج سبيل الرموز والإيحاءات مع مركزية حضور الألوان الدّاكنة على محامل مختلفة يتمّ التصرّف فيها وفق رؤية صاحبها.

وقد شدّنا اللون الأزرق بحضوره بدرجات متنوعة في أغلب اللوحات التي قُدّت على القماش بتقنية الأكريليك أو تقنيات مختلفة وعلى الورق بتقنية الكولاج أو تقنيات مختلفة.

مغامرة "الكادحات" لشروق بلحاج صالح تعبيرات مختلفة، متباينة ومتواشجة فيما بينها. يعكس جماعها انشغالا مؤرقا بالبحث في الواقع الاجتماعيّ المتخيّل من خلال البتّ في إشكاليّات العرض وإستيطيقا التواصل في التجربة التشكيلية المعاصرة من خلال ثيمة الجسد الأنثوي المختزل لأسطورة الخلق والصّمود رغم التّهميش.

13