وردة الحب الصافي
حين يُقال إن كتاب "النبي" لجبران خليل جبران لا يزال الكتاب الأكثر مبيعا في العالم بعد الكتب المقدسة، فإن ذلك يعني أن ابن بشري اللبنانية قد تفوق على الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه الذي حاول في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" أن يخترع نبيا جديدا. نبي جبران هو ابن الضيعة اللبنانية التي غنت من أجلها صباح “عالضيعة يما عا الضيعة/ وديني وبلا ها لبيعة/ جينا نبيع كبوش التوت/ ضيعنا القلب ببيروت/ يا شماتة شباب الضيعة”.
وإذا ما كان جبران قد قال "أعطني الناي وغن وانس داء ودواء/ إنما الناس سطور كُتبت لكن بماء"، فإن الأندلسي لسان الدين بن الخطيب كان قد قال في موشحه "جادك الغيث إذا الغيث هما/ يا زمان الوصل في الأندلس/ لم يكن وصلك إلا حلما/ في الكرى أو خلسة المختلس"، وهو في ذلك إنما يختصر المثل الذي يقول “ثلاثة يذهبن عن المرء الحزن؛ الماء والخضرة والوجه الحسن”.
كان هناك في بغداد مقهى اسمه "أم كلثوم". يقع ذلك المقهى في ساحة الميدان، الساحة القريبة من وزارة الدفاع التي كانت مقرا للسلطة أيام حكم عبدالكريم قاسم.
ولأن أم كلثوم كانت تغني كل الوقت، فلم أكن انتبه إلى ما كانت تقول.
كان صوتها يكفي لكي تمتلئ الروح بالإيقاع المبتل بلذة العيش، غير أن جملة واحدة أثارت انتباهي وشدتني إلى قوة خيالها الشعري وهي “والموجة تجري ورا الموجة/ عايزة تطولها/ تضمها وتشتكي حالها/ من بعد ما طال السفر”، جملة كتبها أحمد رامي في أغنية “فاكر لما كنت جنبي”.
جملة وصفية تخترقها عاطفة حارقة. الطبيعة هنا هي مسرح للتأوهات والتنهدات وشكاوى المحبين المهددين بالفقدان.
وحين يقول محمد عبدالوهاب “المية بتروي العطشان/ وتطفي نار الحران/ يا سلام على المية”، فإن هناك همسا عميقا يتخلل تلك السطور، هو همس العاشق الذي يحلم بماء من نوع آخر يُطفئ نار شوقه.
كان عبدالوهاب محقا في اجتياز المسافة بين الماء الواقعي والماء المتخيل الذي يسقي وردة الحب الصافي، تلك الوردة التي لا يراها إلا عاشق أطبق عينيه على أوراقها فصارت حبيبته كما لو أنها واحدة من هبات الطبيعة المترفة.
تمتزج الطبيعة والإنسان كما لو أنهما الشيء نفسه حين يكون البحث عن الجمال في أشد حالاته نقاءً هو الهدف.
ذلك ما يُسمى بالغزل المزدوج، يرتقي الإنسان من خلاله سلم الخلود، يقول جبران “أعطني الناي وغن فالغنا سر الخلود/ وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود”.
