عن الفساد الحقيقي أتحدث

تونس دولة المفاجآت وحدث 25 يوليو كان أكبر مفاجأة وجاء القرار مفاجئا للجميع وهلّل له الكثير من المهمّشين والمظلومين. فقط قلة قليلة كانت ضد المسار الذي خطه الرئيس قيس سعيّد.
الجمعة 2023/02/17
 لا أحد فوق القانون

جرأة الحاكم ضرورة. ما مِنْ حاكم سَقطَ من عليائه إلا وكان ذا جرأة فعل محدودة نسبيا أو ناقصة. عبر التاريخ الطويل للدول والممالك سقط حُكام كثيرون. بالتأكيد ليسوا كلهم من عديمي الجرأة. أحيانا يحتاج الحاكم إلى جرعة إضافية. تلك الجرعة من الشجاعة ضرورية حتى يحسّ الناس أنهم بمأمن ويعمّ الأمن وترتاح الرعية وتنعم بالحياة. السلطة وفرض العدل حق. ومن قوله تعالى “ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِـٱلْعَدْلِ”، ليست ديباجة تفصيلية أو حديث ألغاز كما يتراءى للبعض. ميزان العدل أساسه براءة الذمّة ونظافة اليد والأهم الإيمان بقدسية البشر على أرضهم وحق الشعوب في النيل من ثرواتها.

الكلام في السياسة والفساد والفاسدين وأعداء الدولة شيء محظور زمن الدكتاتوريات. الآن على الوسائط الاجتماعية كل شيء مُباح. في المقابل هناك كمّ كبير ممن اختاروا الصمت. ربما المحاذير تتطلب ذلك. ترددات الأخبار والحديث عن الإيقافات لرؤوس كبيرة في تونس يصمّ الآذان. في التفحيص والتمحيص أشياء مفيدة قد يتلقفها الجميع. هذا ما كان ينتظره الجمهور الواسع. “سي فلان وقع في المصيدة” و”سي فلتان صار في قبضة الأمن”. هذا كله حديث الشارع. الشعب يغلي على المقهى. التركيز منصب على القبضة الأمنية القوية والمداهمات المستمرة لأعشاش الدبابير ليلا. ألمْ نقل إن الجرأة مطلوبة. التراخي لم يعد مُفيدًا.

◙ تونس تعيش مرحلة دقيقة وجب على الجميع تقديم الدعم لمن له القدرة على تطهيرها من "شلّة الفساد"

نبقى في وسائل التواصل الاجتماعي لأنها المحرار الحقيقي لحجم التفاعلات بين الساسة والناس على السواء. بين مفنّد ومثنٍ، بين من يرُوق له الفعل ومن هو ضده. باختصار بين منطق الدولة واللادولة. في أثير الكلام بين هذا وذاك هناك مبالغة في الثناء يقابله “ترذيل” للعمل الذي تقوم به الدولة ممثلة في سلطة القضاء والأجهزة الأمنية.

طبيعي أن يكون الحوار منقسما. لكن ما ليس طبيعيا أن يعمد البعض إلى تبييض الفاسدين والتستّر عليهم. سلطة القضاء لا تتحرّك اعتباطيا. الأمور مدروسة ووفق تقارير وإثباتات. ومن تثبت براءته يكون خارج الزنزانة، حرّا طليقا.

نعود إلى النص. ما تعيشه تونس اليوم سابقة في تاريخها الطويل. سابقة على مستوى حجم التحدي والإرادة القوية للسلطة التي تريد أن تعيد للدولة هيبتها وتصحح المسار الذي اتخذته السلطة يوم 25 يوليو 2021. الدولة التي أريد لها أن تُغيّب على مر عقود مضت. دقّت ساعة العمل والخلاص من براثن الفساد الذي عشش طويلا واتخذ مسار أخطبوط تعذّر الفكاك منه.

كل الحكومات إن لم نقل جلّها التي تعاقبت على تونس إبان الهبة الشعبية في 2011 تغنّت بضرب الفساد والقضاء عليه. كانت الروايات متباينة ومضحكة أحيانا. نصبت الخيام وتفنن الجميع في عرض بضاعته وتواصل التعتيم على الفوضى التي وجدت مناصرين أكفاء من كل القيادات الحزبية إن لم نقل جميعها. الجميع غرق في ديباجة التنظير للظاهرة. الإعلام بشقيه السمعي والبصري غارق في الأوحال.

تندّر وإسفاف ومغالاة ولا حياة لمن تنادي. الكل يتغنّى بالعروض التي يقودها هذا النائب في البرلمان أو ذاك وراء الكواليس. لكن الأجدر كان بفضح الظاهرة والوقوف عند المشاكل الحقيقية التي تمس الدولة ومستقبل اقتصادها وسياستها التعليمية وصحتها ونقلها وغيرها من الضروريات.

عاشت تونس أشد فترات الترذيل السياسي ولا من مُجيب. الحكومات تشتغل على الحواف. قضايا هامشية لا تمس مصالح التونسيين ولا معيشتهم. لا وجود لأزمات من قبيل غياب السلع والمواد الاستهلاكية في الأسواق أو صعوبة تزويدها. فرص الاشتغال والتربّح لرؤوس الأموال والحيتان الكبيرة كانت تريد لسياسة الفوضى أن تتواصل. مجال التربّح وافر وأرباحها في تضاعف.

◙ الكلام في السياسة والفساد والفاسدين وأعداء الدولة شيء محظور زمن الدكتاتوريات. الآن على الوسائط الاجتماعية كل شيء مُباح

تونس دولة المفاجآت. حدث 25 يوليو كان أكبر مفاجأة. جاء القرار مفاجئا للجميع. هلّل له الكثير من المهمّشين والمظلومين. فقط قلة قليلة كانت ضد المسار الذي خطه الرئيس قيس سعيّد. بدأ المسار بإطلاق خطاب قوي توعد فيه بضرب الفاسدين وتتبع كل من يثبت تورطه في قضايا فساد واحتكار وسواهما. لا أحد فوق القانون. القانون يطبّق الآن. هذا ما كانت تنتظره تونس. ألم نقل إن الجرأة مطلوبة. جرأة يتبعها فعل حقيقي. في الأثناء الجميع يواصل حلقة الترذيل على السوشيال ميديا. سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه الكل أن مسّ الظواهر الحقيقية للفساد هو إنجاز.

الانتقال إلى المرحلة السريعة مُهمّ. الحقائق والإثباتات مفيدة في هكذا أمور. من يتلاعب بأمن الدولة ويشتغل في الخفاء ينتظر نتيجة فعله. الرئيس سعيّد واضح في هكذا توجه. رد على خصومه بخطاب شجاع قال فيه “المجرمون يجب أن ينالوا جزاءهم.. لا أحد فوق القانون.. سنوفر محاكمة عادلة لمن يثبت تورطه..”. خطاب ذو رمزية ودلالة كبيرة من مقر وزارة الداخلية. الأمن معي والحق معي وأنا جاد في ما أفعل.. تلك هي الصورة التي يريد الرئيس التونسي إيصالها إلى الداخل والخارج على السواء.

تونس تعيش مرحلة دقيقة وجب على الجميع تقديم الدعم لمن له القدرة على تطهيرها من “شلّة الفساد”. فقط الصبر حكمة الأقوياء من أجل حصد النتائج. في المحصلة المعادلة بسيطة لكنها غاية في التشويق والإثارة: “قليلا من الوقت.. الكثير من المفاجآت بالانتظار”.

8