كيف تستعيد صورة تونس بريقها

يتساءل الكثيرون كيف تغيرت الأمور بهذا الشكل بالنسبة إلى تونس. فالبلاد تجد نفسها اليوم عالقة في مأزق سياسي لا ينتهي بعد أن كان الكثيرون ينظرون إليها قبل أكثر من عقد على أنها رائدة الانتفاضات التي أطلقت شرارة الربيع العربي. بالإضافة إلى ذلك لا يبدو أن وضعها لم يعد يستأثر بالاهتمام مثلما كان عليه الأمر في السابق.
بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011 تخيّل الكثير من التونسيين أن تصفيق الدول الغربية ومساعداتها لن تتوقف أبدا.
ولكن خيبة الأمل كانت في نهاية المطاف متبادلة. كان التونسيون يأملون أن تتسم مقاربات شركائهم الأوروبيين المساعدة لتونس بأفق أوسع مما توفره البرامج التقليدية لسياسة الجوار الأوروبي من إمكانيات، في حين كان الأوروبيون والأميركان يتوقعون من الحكومات التونسية أن تواصل إصلاحاتها السياسية والاقتصادية. ولكنها لم تفعل.
خلال أكثر من عشر سنوات كاملة كبّل الخوف من الاضطرابات الاجتماعية الإصلاحات الاقتصادية، وفي يوليو 2021 قرر الرئيس قيس سعيد وضع حد للمسار السياسي الذي رأى فيه السبب الرئيسي لإخفاقات البلاد. وقرر اللجوء إلى التدابير الاستثنائية وممارسة السلطة بناء على إصدار المراسيم.
وإذ كان التونسيون يخشون أن يتخلى عنهم الآخرون فقد تعززت مخاوفهم في ديسمبر الماضي عندما أعلن صندوق النقد الدولي تأجيل مناقشة ملف منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار حتى إشعار آخر. وكان من المأمول أن يساهم هذا القرض في تلبية حاجيات الموازنة التونسية وأن يفتح الباب أمام قروض أخرى تحتاجها البلاد.
◙ الغرب يصطدم بضبابية المشهد السياسي في تونس خاصة أمام انقسام المعارضة وعزوف الجمهور الواسع في البلاد عن الشأن العام مثلما أظهرت ذلك نسبة التصويت خلال الانتخابات التشريعية
وبقيت تونس منذ ذلك الحين تنتظر، دون نتيجة تذكر، تعيين موعد جديد لاجتماع المجلس التنفيذي للصندوق لمناقشة موضوع القرض التونسي أو أن يبادر المانحون الأجانب بمد يد المساعدة لتونس. كانت هناك كذلك توقعات بحصول تونس على قروض أو ودائع من السعودية أو الإمارات، ولكن هذه التوقعات لم تتجسم. إضافة إلى ذلك أكدت الرياض مؤخرا أن مساعداتها المالية للدول الأخرى سوف تكون مستقبلا مشروطة بإدخال هذه الدول للإصلاحات الضرورية على اقتصادياتها.
أنحى الكثيرون باللائمة على عدم نجاعة التحرك الدبلوماسي التونسي الرامي لتحقيق الأهداف الاقتصادية للبلاد وعلى غياب الالتزام الواضح للدولة بالإصلاحات الاقتصادية بما من شأنه أن يقنع شركاء تونس بمساعدة البلاد.
وفي الأثناء أعطى التغيير الأخير على رأس وزارة الخارجية التونسية الأمل للعديدين بأن تخرج الدبلوماسية التونسية من جمودها. كما حاول فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مؤخرا، من ناحيته، طمأنة التونسيين على أن المانحين الأجانب مازالوا رغم كل شيء مستعدين لمساعدة البلاد.
لكن التحديات القائمة لا تزال كبيرة. ففي الوقت الذي يبدي فيه المسؤولون التونسيون ما يشبه الإنكار لوجود أزمة في البلاد، تركز الدول الغربية اهتمامها بشكل شبه كامل على مشاغلها الذاتية وخاصة منها الحرب في أوكرانيا والنفقات العسكرية ومشاريع الطاقة المترتبة عنها. وأصبحت المساعدات الخارجية المخصصة لتونس موجهة بشكل عام للاستجابة للأغراض العاجلة ولا يتسع نطاقها للمشاريع الطويلة الأمد.
بقي الأوروبيون والأميركان في حالة انتظار وهم يتابعون تطور المسار السياسي المتعثر في البلاد. وإن كانت واشنطن اجتنبت إلى حد الآن قطع المساعدة الخارجية أو الاعتراض على منح صندوق النقد الدولي للقرض الذي تنشده تونس، فإن الساسة الأميركيين أرسلوا بعض الإشارات على أنهم ينوون التقليص من المساعدة العسكرية والاقتصادية لتونس.
وقد تلجأ واشنطن أيضا، في نطاق رد فعلها على ما تراه تقهقرا في المسار الديمقراطي، إلى تعليق منحة بقيمة 500 مليون دولار كانت مخصصة لتمويل مشاريع للبنية التحتية في نطاق برنامج لمؤسسة تحدي الألفية. وقال السيناتور كريس مورفي عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي خلال الفترة الأخيرة “أعتقد أنه لا يجب أن تمنح الولايات المتحدة الحكومة التونسية أي مساعدات إضافية إلى حين حصول تصحيح جوهري في المسار الديمقراطي للبلاد”.
ويصطدم الغرب بضبابية المشهد السياسي في تونس خاصة أمام انقسام المعارضة وعزوف الجمهور الواسع في البلاد عن الشأن العام مثلما أظهرت ذلك نسبة التصويت خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي بلغت حوالي 11 في المئة فقط من الناخبين.
◙ سوف يكون من مسؤولية التونسيين أن يبرهنوا على أن مصير بلادهم يهمهم هم بغض النظر عن مواقف الآخرين
في هذا النطاق كتب مؤخرا الباحث الأكاديمي الأميركي دانيال برومبيرغ قائلا “إن العائق الأول أمام الديمقراطية في تونس ليس قيس سعيد أو المؤسسات المتوائمة مع الحكم الفردي التي أنشأها، وإنما القطيعة المتزايدة بين عموم التونسيين مع الدولة ومع أي شكل من أشكال العمل السياسي أو النخبة السياسية التي يكنون لها ازدراء كبيرا”.
في الأثناء تسعى بعض الوجوه الشعبوية إلى استغلال الوضع الصعب للبلاد للدعوة إلى إحداث تغيير في التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية التونسية وذلك بالاصطفاف وراء الصين. وكان الرئيس سعيد حضر خلال ديسمبر الماضي القمة العربية الصينية وهناك استمع للرئيس الصيني شي جين بينغ يؤكد له استعداد بكين لمساندة تونس على “اتباع مسار تنموي يتلاءم وظروفها الوطنية مع رفض لأي تدخل من القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للبلاد”.
قد يكون ذلك ما كان سعيّد يرغب في سماعه، ولكن كلمات الرئيس الصيني لا يمكن لها أن تحدد المسار المستقبلي لتونس. والعلاقات التونسية – الصينية هي بالأساس علاقات تجارية إلى حد الآن ولا يمكن أن تحل محل علاقات الشراكة التونسية مع أوروبا.
وقد يكون من السهل للتيارات الشعبوية في تونس إعادة تصميم التحالفات الدولية للبلاد من الناحية النظرية لكنه لا يمكنها أن تغير في شيء من الواقع الجيوسياسي.
وقد يكون إشعاع التجربة الديمقراطية التونسية قد خفت بريقه ولكن الأهمية الجيوستراتيجية للبلاد مازالت ثابتة. وموقع تونس الجغرافي وسط المتوسط يزيد بكل تأكيد في عمق العلاقات التونسية مع أوروبا والولايات المتحدة، وإن كان مستقبل هذه العلاقات سوف يبقى مرتبطا إلى حد كبير بقدرة القادة التونسيين على إقناع مخاطبيهم الغربيين بمدى تعلقهم بالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية.
وليس هناك خيارات كثيرة لتونس في الظرف الحالي. وقد حاولت الدولة أحيانا الاستدارة نحو جارتيها المغاربيتين دون تحقيق نتائج مقنعة، حتى وإن كانت تونس تعتمد اعتمادا كبيرا على استيراد الغاز من الجزائر وعلى القروض المتأتية من هذه الجارة وآخرها قرض بقيمة 300 مليون دولار حصلت عليه في ديسمبر الماضي.
◙ إذ كان التونسيون يخشون أن يتخلى عنهم الآخرون فقد تعززت مخاوفهم في ديسمبر الماضي عندما أعلن صندوق النقد الدولي تأجيل مناقشة ملف منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار حتى إشعار آخر
ولكنّ التونسيين في اعتمادهم على الجارتين في الجزائر وليبيا يتنازعهم الوعي بحاجة البلاد الماسة للمساعدة مع الشعور المرهف بالنخوة الوطنية.
وتجلت مثل تلك المشاعر المتناقضة لما وصلت إلى تونس خلال شهر يناير الماضي شحنات من المواد الغذائية من ليبيا، وهي الدولة التي كانت لسنوات تعتمد على الصادرات التونسية من المنتجات الغذائية لسد حاجياتها.
كما أحس البعض في تونس بالصدمة عندما سمعوا رئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني تقول خلال نفس الشهر إنها تحادثت مع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون حول السيناريوهات التي قد تواجهها تونس وكانت تتحدث عن البلاد في نفس سياق حديثها عن الأوضاع في ليبيا ومالي وبؤر توتر أخرى.
بالنسبة إلى البعض رسّخت مثل تلك التصريحات الانطباع بأن اهتمام الغرب ببلادهم يهدف قبل كل شيء إلى درء التداعيات التي قد تنشأ عن أزمات تونس ومشاكلها ومن بينها مشكلة الهجرة غير النظامية.
في نهاية التحليل سوف يكون من مسؤولية التونسيين أن يبرهنوا على أن مصير بلادهم يهمهم هم بغض النظر عن مواقف الآخرين. وهذا لن يتم بمواصلة الانسياق وراء تيار الهجرة إلى الخارج مهما كانت التكاليف أو باللامبالاة تجاه الأوضاع السياسية في البلاد.
وكي تسترد تونس إشعاعها الخارجي عليها أولا وبالذات أن تحل مشاكلها الداخلية، وهي مشاكل يتحمل مسؤوليتها أبناؤها قبل أي طرف آخر. عندها فقط سوف ينظر العالم الخارجي لتونس كشريك حقيقي وليس كدولة تسعى فحسب لكسب ثقة المانحين الأجانب.