"هاء.. وأسفار عشتار".. بطل متمرد يغيّر أفكارنا عن الحرية

الكاتب الجزائري عزالدين جلاوجي يفتح سرده على التجريب.
الأربعاء 2023/02/15
تمرد على السجن الذي في الداخل (لوحة للفنانة سندس عبدالملك)

تحاول الروايات التجريبية الذهاب بعيدا إلى أعماق الذوات البشرية لاستنطاق كل ما هو مسكوت عنه، بينما تقرأ القضايا الكبرى كالحرية والعدالة والسياسة وغيرها من زوايا مختلفة وبأكثر من صوت واحد وتصور واحد، وهذا ما نجده ماثلا في رواية الكاتب الجزائري عزالدين جلاوجي “هاء.. وأسفار عشتار”.

منى عارف

“تعرّف الحداثة تاريخا ونفسيا واجتماعيا على أنها فترة تاريخية وفنية امتدت منذ 1865 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزامنت مع تقدم الصناعة والتكنولوجيا بحيث ظهرت كاستجابة للتقاليد والمعتقدات والأفكار الموروثة التي عرضها المفكرون العظماء، مثل عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد والفيلسوف الألمانى كارل ماركس ومواطنه فردريك نيتشه والعالم البريطاني تشارلز دارون، وغيرهم ممن عملوا على إعادة النظر في معتقدات قديمة سائدة لمحاولة تغييرها.

لذا فإن الحداثة تتبنى أفكارا ومعتقدات، ويضيف إلينا ناصيف نصار في مجال التمييز بين الحداثة والتقليد أن “الحداثة هي المفهوم الدال على التجديد والنشاط الإبداعي، وحيث نجد إبداعا، نجد عملا حداثيا وهو في مجمله حالة خروج من التقاليد وخلق حالة إبداعية جديدة من التجديد”.

وهكذا جاءت روايات الكاتب الجزائري عزالدين جلاوجي محاولة لفهم العالم بصورة جديدة، ومحاولة لفهم النفس الإنسانية، ووضع معان لكل من الحرية والحب والجمال واختراق التابوهات.

كاتب مجرب في رواياته
كاتب مجرب في رواياته

بطل متمرد

تجمع أعمال جلاوجي بين الإيمان والجريمة والشر والخير، المتمثل في الإنسان ونزعاته المأساوية التي تدفعه إلى الغضب والقتل والخروج عن المألوف ومزج القديم بالجديد في الميثولوجيا اليونانية حتى الطواف بنا على بساط السندباد البحري، مستعينا بآيات من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، سندا ودليلا، مستخدما تقنيات مختلفة ومتعددة في رواياته. وأبدأ معكم رحلة سرد خاصة جدا.

في رواية “هاء.. وأسفار عشتار”، نلقي الضوء على البحث في آليات التجريب الروائي، باعتباره هاجس كل مبدع ومركز اهتمامه. وقد سار مبدعنا على منهج المجددين مؤسسا تجربته الروائية على التغير وإدخالنا في عوالم خيالية تارة وعوالم عجائبية تارة أخرى. وظهر ذلك بوضوح في استخدامه تقنية تأنيس الحيوانات، ومنها القط الصغير الذي وجده بعد موت مصدر أمانه الوحيد في العالم، بل نموذجه المثالي في الرواية الجد مصباح، وكأن القط يموء ويتحرك كصديق قديم يعرفه جيدا مثل جده الذي عاش عمره يعتني بحديقته وأشجاره وبيته مقتربا من الطبيعة حتى حد التقشف.

وأثرى خيال بطل الحكي بكم من الحكايات والأساطير، ومنها السندباد البحري. وكان حافزه الأول على الانطلاق والتحليق بعيدا، والتوحد مع أصوات الريح والسماء والجدران والأرض والانسجام مع الخضار والوديان والأشجار آخذا منها دورة الحياة ونشاطها.

رحلة بحث مضيئة أمضاها الطفل ثم الشاب الذي احترف الكتابة، لكي يخرج عن صفوف الطلاب في الجامعة موزعا كتاباته ومنشوراته عن فكرة الحرية. الحرية المطلقة كفكرة للوجود والتعايش في كتابه الذي أعطاه عنوان “الإنسان الحر” مؤمنا بما ذكره له جده مصباح، وكرره لنا على مدار فصول روايته “ليست الحرية أن تخرج من العبودية. الحرية أن تخرج منك العبودية”.

الكاتب قسم مؤلفه هذا إلى قسمين: الأول يوضح فيه مفهوم الحرية والثاني أشكال العبودية، داعيا إلى تحقيقها
الكاتب قسم مؤلفه هذا إلى قسمين: الأول يوضح فيه مفهوم الحرية والثاني أشكال العبودية، داعيا إلى تحقيقها

كان البطل متمردا يحمل روحا شفافة تواقة إلى الصفاء والحب، يدين بصرامة كل ما حوله من قوانين وضوابط وأوامر، يهرب تارة من المدرسة، يهرب تارة من أمه نحو الطبيعة والغابة. يجري يسابق الريح، ومعه صديقته ورفيقته طوال مراحل حياته، وهي في الوقت نفسه ملهمته.

يحرك عناد بطل الرواية ومحاولته للوصول إلى تحقيق أفكاره وتطبيقها في الحياة الأحداث في الرواية. ومنها مفهومه الحقيقي عن الحرية الذي يعتقد أنه يكشط عن قلوب البشر طبقات سميكة سوداء من العبودية، من جراء ما تراكم في العقول من فلسفات ومعارف وقوانين وأديان، كلها من صنع البشر ذواتهم، وكلها صارت أسيجة ومعاقل تحجب النور عن الإنسان.

وكما نستشف من الرواية، فإن اختلاف الفلسفات والمدن والأوطان والأنظمة والحدود كلها سبب حروبنا التي لا تنتهي. والتي يذهب ضحيتها الملايين. وقسم الكاتب مؤلفه هذا إلى قسمين: الأول يوضح فيه مفهوم الحرية، والجزء الثاني أشكال العبودية، وفي الأخير دعوة لمفهوم حرية الفطرة.

تجلت روح بطل الرواية الثائرة والمحرضة في نفس الوقت وتفشت أفكاره كالنار في الهشيم في عقول طلاب الكلية، مما أدى إلى التفات السلطات إلى ما يقوله ويدعمه، فتم إبعاده وسجنه لسنوات لا يعرف عددها. كانت طفلته تأتي له بالطعام والملابس على مر السنوات لم تكل ولم تنطفئ شعلة الحب في قلبها يوما. وتمت مصادرة نسخ كتابه كلها. واعتبر ما قام به تعديا على قيم الدولة والأمة والإنسانية. لكنه تقبل ما سوف يتعرض له، ولم يكن في حقيقة الأمر يعنيه كثيرا لأنه أدرك يقينا أن تغيير واقع الناس لن يكون أمرا سهلا. وقد صارت أردية العبودية لدى الإنسان هي الأصل الذي يمكن أن يريق من أجلها الدماء ويزهق الأرواح.

 وكان يؤمن بأن ما تعرض له وما سوف يتعرض له، تعرض له كل دعاة الحرية على مر الأزمان، وناهيك عن الحديث عن الدين الذي لا يختلف في معناه عن فكرة الأوامر والقهر وخطاب يتلخص في: افعل ولا تفعل. وينصب البعض أنفسهم فقهاء وعلماء ويقيمون لأتباعهم قيودا وأسوارا وسجونا. ونبتعد عن فكرة الدين نفسها وعن السلام والمحبة التي خلق الله بها العالم.

وبدورها تكسر بطلة الرواية تلك الحواجز وتنطلق في رحلة بحث خاص، تهيمن فيها الثقافات المختلفة كأنها إعادة للميثولوجيا اليونانية. نقابل عشتار آخر وزيوس مختلفا، بل ويتم استنساخ أرواح بعينها.

أما البطل فيحاول الخلاص من سجن الذات أولا ومن السجن الحقيقي الذي تم وضعه فيه مع الخطرين وأصحاب السوابق ومن سجن الفراغ وضياع الأمل.

عمل تجريبي

ما بين أسفار التيه وأسفار المسخ وحكاية جلجامش والسندباد نجد أننا أمام خطاب روائي متجدد وحديث له استقلالية

وتأتي خلاصة الفكرة “أخي الإنسان تحرر من سجونك، ذاتك سجن، أوطانك سجن، أديانك سجن، غرائزك سجن، خوفك سجن، تحرر من خوفك تحرر من كل السجون”.

ما بين أسفار التيه وأسفار المسخ وحكاية جلجامش والسندباد البحري نجد أننا أمام خطاب روائي متجدد وحديث له استقلالية.

جاء النص مرئيا يتعانق المتن فيه مع صور كثيرة وتفاصيل عن الأماكن، الغابة والحديقة والسجن والجامعة، نصا متحركا وسريعا نجري ونتسابق فيه مع بطل رحلة يسعى بشكل دؤوب لتحقيق فكرته عن الحرية وانتصاره، رغم كل الصعوبات التي واجهها وأفقدته في نهاية الأمر طفلته المدللة أيضا.

من خصائص هذه الرواية كانت اللغة التي جاءت بمزيج من الشعر لتكون أكثر تعبيرا عن الشخصية وأشد ارتباطا بالمناخ السردي الذي صاغها به. كما جاء التعدد الصوتي لغة جدلية تارة ولغة عاطفية تارة أخرى، واستفاد من اللغة التراثية لكي ينهل منها في محاولة أكيدة للتجري، لتكون علامة من علامات المبدع عزالدين جلاوجي بحيث اندمج في مدلوله الرمزي وصولا إلى المدى الفلسفي الذي طرح به هذه الرواية.

13