التضخم يستمر في استنزاف القدرات الشرائية للتونسيين

عمقت المؤشرات حول ارتفاع التضخم في تونس القلق من خروج الأوضاع عن السيطرة مع اقتراب شهر رمضان، في ظل استمرار ندرة بعض المنتجات في السوق وتأثيراتها خاصة على الطبقة الفقيرة، التي لا تزال تترقب بفارغ الصبر إحداث اختراق سريع في جدار أزماتها المزمنة.
تونس – تسارعت وتيرة التضخم في تونس، ولو أنها بشكل طفيف، مدفوعة بزيادة تكاليف الغذاء والطاقة لتبلغ مستوى جديدا، ولتستمر في استنزاف قدرات المستهلكين الذين يكابدون لتوفير مستلزماتهم اليومية.
وقادت تكاليف الأغذية والطاقة مؤشر أسعار الاستهلاك إلى الارتفاع مجددا الشهر الماضي ليبلغ 10.2 في المئة مقارنة مع 10.1 في المئة في ديسمبر 2022، بحسب بيانات نشرها معهد الإحصاء الأحد الماضي، وهو منحى يسير وفق تقديرات المسؤولين لهذا العام.
وهذا الرقم المسجل في التضخم بعيد جدا عن توقعات مسؤولي البنك الدولي، الذين حددوه عند 8.3 في المئة خلال هذا العام، ما يعني أنه لا مفر بالنسبة للحكومة سوى اتخاذ قرارات عاجلة بعدما زادت تداعيات الحرب في أوكرانيا من وطأتها.
10.2
في المئة نسبة أسعار الاستهلاك في يناير 2023 بزيادة 0.1 في المئة على أساس شهري
وأسعار المستهلك المسجلة في يناير على أساس سنوي هي الأعلى منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وسط قفزة في أسعار الغذاء بنسبة 14.1 في المئة والملابس والأحذية 9.5 في المئة ومواد البناء 9.1 في المئة.
وخلال الأسابيع الماضية بات الناس يقفون في طوابير لساعات للحصول على السلع الضرورية، التي تدعمها الدولة منذ فترة طويلة وأصبحت الآن متوفرة بشكل متزايد في حصص الإعاشة فقط.
وعندما تظهر على رفوف المتاجر، التي بالكاد تتزود بهذه السلع على عكس ما كانت عليها الأوضاع في السابق، لا يستطيع الكثير من التونسيين دفع ثمنها الباهظ.
والغذاء ليس الشيء الوحيد الذي يعاني من نقص في المعروض أو في ارتفاع أسعاره بشكل لم يعد يتلاءم مع القدرة الشرائية للناس، حيث أصبحت تكاليف التنقل تقضم رواتب الموظفين والعمال بشكل مخيف.
وتعتمد تونس، التي تفتقر إلى موارد الطاقة مثل تلك الموجودة لدى جارتيها ليبيا والجزائر بشكل كبير على الواردات، وتعني مشاكلها الاقتصادية المستمرة منذ فترة طويلة أن نفوذها محدود على الأسواق الدولية لتأمين السلع التي تحتاجها.
وكانت البلاد قد شهدت في مطلع ثمانينات القرن الماضي مستويات تضخم قياسية تجاوزت حوالي 16 في المئة. وكان الاقتصاد يسير في اتجاه شبيه بما يحصل اليوم.
والأسبوع الماضي، حذر محافظ البنك المركزي مروان العباسي من أن السوق المحلية قد تشهد ارتفاعات جديدة في الأسعار هذا العام قد تصل إلى نحو 15.5 في المئة، ولذلك قرر الأربعاء الماضي الإبقاء على أسعار الفائدة عند 8 في المئة.
وربط العباسي الوصول إلى هذه النسبة بإلغاء الدعم عن المحروقات، وهو ما لم تؤكده الحكومة حتى الآن، لكن قد يتراجع التضخم في العام المقبل ليصل إلى 12.8 في المئة.
وتكافح حكومة نجلاء بودن بشق الأنفس لكي تعالج أوضاع المالية العامة المتضررة بشدة، بالحصول على قرض من صندوق النقد الدولي مقابل إصلاحات غير شعبية تشمل خفض الإنفاق وخفض دعم الطاقة والغذاء.
وبسبب تذبذب وفرة النقد الأجنبي في تونس، تشهد الأسواق المحلية منذ أشهر تراجعا في وفرة السلع الرئيسية، في وقت يتهم الرئيس قيس سعيّد تجارا بممارسة الاحتكار لبعض السلع.
وتتواصل أزمة نقص المواد الأساسية وفقدانها مع اقتراب شهر رمضان، حيث يكثر الطلب على السلع، وسط ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، نتيجة الصعوبات المالية التي تعيشها البلاد، وارتفاع نسبة التضخم.
ومازالت العديد من السلع مثل السكر والقهوة والحليب ومشتقاته غائبة عن رفوف المتاجر، مما عمق معاناة المواطنين، الأمر الذي دفع الرئيس سعيّد إلى التأكيد على ضرورة العمل على تكوين مخزون إستراتيجي لمعاجلة هذه الأزمة.
وقالت الرئاسة التونسية في بيان نشرته السبت الماضي على صفحتها في فيسبوك إن سعيّد وصف شح البعض من المواد وفقدانها من الأسواق بأنها “ظاهرة لم تعرفها تونس حتى زمن الأزمات الاقتصادية الكبرى في العقود الماضية”.
وشدد خلال اجتماعه مساء الجمعة الماضي مع بودن ووزيرة التجارة وتنمية الصادرات كلثوم بن رجب والمديرة العامة للجمارك نجاة الجوادي، على ضرورة معالجة أسباب فقدان عدد من المواد الأساسية من الأسواق.
وترجع أوساط اقتصادية الأزمة إلى الصعوبات المالية التي تعاني منها البلاد، إلى جانب الاضطراب في عمليات التزود في الأسواق المحلية بسبب عدم قدرتها على دفع الفواتير للمزودين الخارجيين.
واعتبر هشام الحاجي، الأمين العام للمركز المغاربي للبحوث والدراسات، ما يحدث اليوم بأنه “أزمة معقدة ومركبة” ناتجة عن صعوبات مالية.
محافظ البنك المركزي ربط الوصول إلى هذه النسبة بإلغاء الدعم عن المحروقات، وهو ما لم تؤكده الحكومة حتى الآن
وقال لوكالة شينخوا إن “الصعوبات المالية انعكست سلبيا على سيولة صندوق الدعم وأدت إلى عدم صرف مستحقات كبار المنتجين، الأمر الذي تسبب في تراجع الإنتاج، لاسيما وأن القطاع يشكو من هيمنة منتج واحد يستحوذ على 80 في المئة من الإنتاج”.
ويتفق الخبير الاقتصادي معز حديدان مع هذا الموقف. وقال في تصريحات لإحدى الإذاعات المحلية إن “أسباب الأزمة داخلية أساسا وتتعلق بتوفير السيولة، فضلا عن غياب وجود إستراتيجية للأمن الغذائي”.
وتونس في حاجة ماسة منذ أشهر إلى مساعدة دولية، إذ ترزح تحت وطأة أزمة مالية يقول معارضون للحكومة إنها أثارت مخاوف من احتمال تخلف البلاد عن سداد ديونها. كما تسببت في نقص الغذاء والوقود.
ويعد الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي أساسيا لفتح الطريق أمام المساعدات الثنائية من الدول المانحة، التي أرادت أن تطمئن من خلال برنامج ائتماني يفيد بأن تونس يمكنها تنفيذ إصلاحات تضع تمويلاتها على مستوى أكثر استدامة.
وتعرض اقتصاد البلد لعدة ضربات على مدى السنوات الماضية، إذ تسببت اضطرابات سياسية وهجمات مسلحة في الإضرار بقطاع السياحة الحيوي، حتى قبل بزوغ تحديات أخرى مثل الجائحة وشح السلع العالمية بفعل حرب أوكرانيا.