شتاء الأحزان التركية

أطلق عالم النفس كليف أرنال اسم “الاثنين الأزرق” على يوم الاثنين الثالث من شهر يناير. ويقال إنه أكثر أيام السنة كآبة، حيث يفسح موسم العطلات الاحتفالي المجال لبرودة الشتاء وملله.
وتجاوز معظمنا الاثنين الأزرق وتركنا ذكرياته خلفنا. لكنه حدث يومي بالنسبة إلى العديد من الأتراك؛ حيث البلاد عالقة في أزمة مالية ونفسية واجتماعية تركت آثارها على معنويات حتى أكثر الوطنيين تفاؤلا. ويتوقع أن يكون هذا العام قاسيا على صحة الأتراك العقلية، مع التوقعات السياسية والاقتصادية القاتمة.
ويعاني 9 في المئة من سكان البلاد اليوم بالفعل من الاكتئاب المزمن، وحددت وزارة الصحة التركية ارتفاع استهلاك مضادات الاكتئاب على مدى السنوات الخمس الماضية بنسبة 56 في المئة مع إجراء 13 مليون فحص نفسي في عام 2017، في حين لم يتجاوز العدد 9.5 مليون عام 2013. وبالطبع، ينبغي ألا ننسى أن هؤلاء يعانون في صمت، حيث لا يطلب المساعدة سوى واحد فقط من كل ستة أشخاص من ذوي الاحتياجات الصحية العقلية في تركيا.
الأتراك ليسوا متشائمين دائما، ويصعب إلقاء اللوم على من هم كذلك. وكلما أسرعت الحكومة في تنظيم الأمور أسرع الجميع في ترك الأيام السيئة وراءهم
وساهمت جائحة كورونا في احتداد هذه الأزمة. وكانت تركيا من بين الأكثر تضررا، بينما تصاعد الاكتئاب والقلق في العديد من البلدان منذ ظهور الوباء. ووجدت دراسة أجريت عام 2020 ونشرتها مجلة “ذي لانسيت” الطبية العالمية أن تركيا عانت من أكبر ارتفاع في حالات الاكتئاب المرتبط بالجائحة بين الدول الأوروبية.
وترسم الأرقام الصادرة مؤخرا صورة أكثر إثارة للقلق؛ حيث وجد تقرير مؤسّسة غالوب الأميركية للتحليلات والاستشارات عن حالة القوى العاملة العالمية عام 2022 أن 66 في المئة من الأتراك يشعرون بالتوتر يوميّا، و43 في المئة قلقون جدّا، و46 في المئة يعتبرون أنفسهم غاضبين، و40 في المئة يقرون بأنهم في حالة حزن دائم.
وتبقى إسطنبول، حيث يعيش خُمس سكان تركيا، في مستوى خاص من ناحية الصحة العقلية. وقدّر بارومتر إسطنبول، الذي نشرته وكالة تخطيط المدينة في ديسمبر 2022، متوسط مستوى إجهاد السكان عند 7.3 على مقياس مكون من 10 نقاط. ويرى نصف المشاركين في الاستطلاع أن الاقتصاد هو السبب، حيث قال 47 في المئة منهم إنهم لا يستطيعون دفع فواتيرهم الشهرية.
كما يعتبر الارتفاع الصاروخي في كلفة السكن أحد العوامل الرئيسية المساهمة في بروز هذه الحالة؛ حيث ارتفعت أسعار المنازل في إسطنبول بأكثر من 212 في المئة خلال العام الماضي، وهي أكبر زيادة في 150 مدينة عالمية تتبعها شركة الاستشارات العقارية نايت فرانك في لندن. وكانت أنقرة في المرتبة الثانية بنسبة 196 في المئة، واحتلت أزمير المرتبة الثالثة (185.8 في المئة). وشهدت ميامي التي احتلت المرتبة الرابعة في القائمة معدلا متواضعا -مقارنة بما سبق- بلغت نسبته 28.6 في المئة.
كما أن تضخم السلع الاستهلاكية يثقل كاهل الأتراك كثيرا؛ فقد بلغت كلفة قطعة جبنة من نوع “كسار” في نوفمبر الماضي ثمن كيلوغرام من اللحم الأحمر. ومع ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك في تركيا على مدى 12 شهرا بأكثر من 137 في المئة، ليس من المفاجئ أن يعاني الناس.
لقد التزمت الحكومة بخطة العمل العالمية للصحة النفسية التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية في 2013، إلا أنها فشلت في تحقيق المعالم الرئيسية. فلم تعتمد تركيا مطلقا تشريعات للصحة العقلية. ولا يزال مشروع قانون الصحة العقلية الذي صاغته جمعية الطب النفسي التركية في 2014 معلقا لم يتم العمل به بحلول عام 2022.
كما تعاني المعاهد والخدمات التي تقدم الرعاية النفسية والاجتماعية من نقص الموظفين. ويبلغ عدد العاملين في مجال الصحة النفسية لكل 100 ألف شخص في تركيا 16330 عامل. وعلى سبيل المقارنة، يبلغ المتوسط في أوروبا 43500 عامل.
الاقتصاد يتكبد خسائر فادحة بسبب الفشل في معالجة أمراض الصحة العقلية. وقد أبلغ معهد الإحصاء التركي عام 2018 عن متوسط تسع حالات انتحار تحدث يوميا
ويتكبد اقتصاد البلاد خسائر فادحة بسبب الفشل في معالجة أمراض الصحة العقلية. وقد أبلغ معهد الإحصاء التركي عام 2018 عن متوسط تسع حالات انتحار تحدث يوميا في تركيا. وتوقف المعهد منذ ذلك التاريخ عن الكشف عن إحصاءات الانتحار، لكن الافتراض السائد هو أن الأرقام لم تنخفض.
واعتبرت منظمة الصحة العالمية أن الاكتئاب هو السبب الرئيسي في اعتلال الصحة والعجز في جميع أنحاء العالم. ولم تحدد تركيا نسبا تتعلق بالاكتئاب، لكنه يؤثر في الولايات المتحدة على ما يقرب من 6 في المئة من السكان العاملين، وتبلغ كلفة العلاج 210 مليار دولار سنويا، هذا إضافة إلى الخسائر في الإنتاج.
واعتبر الأتراك عموما أن السنة الماضية كارثية. وقال 83 في المئة من المستجوبين ضمن استطلاع أجرته شركة أبحاث السوق (أبسوس) إن 2022 كان عاما سيئا على بلدهم، بينما قال 71 في المئة إن تركيا تسير في الاتجاه الخاطئ. لكنّ هناك أملا في قدوم الأيام المشرقة، حيث أجاب 54 في المئة من الأتراك بـ”نعم” عندما سألتهم أبسوس عما إذا كانوا يتوقعون أن يكون عام 2023 أفضل من العام الذي سبقه؟
ويجب أن تسير الرياح في صالح ما تشتهيه تركيا حتى يتحقق هذا التفاؤل. ومن المؤكد أن تحسين خدمات الصحة النفسية يبدو نقطة جيدة للانطلاق. وتحتاج الحكومة إلى خطة مستدامة وعملية، ويجب عليها أن تجمع بيانات موثقة للعمل على أساسها. كما يجب أن تؤسس نظام صحة نفسية تخصص له موارد قادرة على مساعدة أولئك الذين يمرون بأوقات عصيبة في بلد يهيمن فيه المجالان السياسي والاقتصادي على إيقاع الحياة اليومية.
الأتراك ليسوا متشائمين دائما، ويصعب إلقاء اللوم على من هم كذلك. وكلما أسرعت الحكومة في تنظيم الأمور أسرع الجميع في ترك الأيام السيئة وراءهم.