القاهرة توظف تناقضات واشنطن وموسكو للحفاظ على مصالحها

القاهرة - يبدو أن وزير الخارجية المصري سامح شكري رتب لقاءه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو الثلاثاء ليكون في اليوم التالي لاجتماعه في القاهرة مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ليؤكد أن بلاده توازن في علاقاتها بين الولايات المتحدة وروسيا بما يحقق مصالحها مع الجانبين، انطلاقا من حرصهما الظاهر على تطوير العلاقات معها وإمكانية الاستجابة لكثير من مطالبها.
وظهرت هذه الصيغة في زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أخيرا إلى الهند، حيث جذب تطوير القاهرة لعلاقاتها مع باكستان مؤخرا نظر نيودلهي ودفعها نحو عقد شراكة إستراتيجية نوعية مع مصر كنوع من تعزيز العلاقات المشتركة، وهو الهدف الذي لم يغب عن ذهن القاهرة عندما اتجهت منذ فترة نحو إسلام آباد.
ويزداد هذا الاتجاه اتساعا على الساحة الدولية، فالتناقضات بين القوى الكبرى تمكن القوى المتوسطة من جني مكاسب متعددة إذا أحسنت التوظيف السياسي لها، وهو ما ينطبق على السياسة المصرية حاليا، والتي تكاد تشعر كل دولة أنها قريبة منها بما يكفي ضمن توازنات صعبة ودقيقة، لكن البيئة الدولية تساعد عليها.
ومع أن زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القاهرة يومي الأحد والاثنين بدت معنية بتخفيف التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، غير أنها اهتمت أيضا بتعزيز العلاقات مع القاهرة ودعم دورها لتخفيف حدة أزمات إقليمية تشكل إزعاجا لها، ما جعل زيارة بلينكن تحوي إشارة إلى تبديد شكوك مصر وتطمين قيادتها كحليف موثوق به في المنطقة خوفا من انحيازها إلى خصوم دوليين.
ولتبديد فكرة أن القاهرة حسمت أمرها باتجاه واشنطن عقب زيارات متتابعة لمسؤولين كبار في الإدارة الأميركية إليها، جاءت زيارة شكري إلى موسكو محملة بتفاهمات عديدة وتقطع الطريق على من فسروا زيارة بلينكن على أنها تقود إلى تفضيل مصر للولايات المتحدة على روسيا.
وكشفت الخارجية المصرية في بيان لها أن زيارة شكري إلى موسكو هدفها “تبادل وجهات النظر حول ملفات دولية وإقليمية ذات تأثير على المصالح المشتركة، بما في ذلك تطورات الأزمة الروسية – الأوكرانية وتداعياتها”.
ويقول متابعون إن سياسة أو لعبة “من ليس معنا فهو ضدنا” التي رفع رؤساء أميركيون من شأنها في السنوات الماضية لم تعد صالحة اليوم مع التضارب الحاصل في المصالح، والسيولة التي يتمتع بها النظام الدولي، ورغبة قوى مختلفة في تنويع علاقاتها وعدم حصرها في قوة بعينها أو الانحياز لطرف ضد آخر.
واستثمرت القاهرة سياسيا في زيارة بلينكن لفك شفرة بعض القضايا المعقدة، أبرزها تأييد تحركاتها لتهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وحلحلة ملف سد النهضة الإثيوبي، ومساندة التسوية في ليبيا، ودعم وساطتها في الأزمة السودانية ما يخفف من ممانعات قوى مدنية في الخرطوم لدورها.
التناقضات بين القوى الكبرى تمكن القوى المتوسطة من جني مكاسب متعددة إذا أحسنت التوظيف السياسي لها
وحصلت مصر على دعم ضمني من قبل الولايات المتحدة في هذه القضايا، إلا أن ارتباك الإدارة الأميركية في التعامل مع الشرق الأوسط، وعدم اكتراثها لتفكيك العقد التي تحيط بملفات عديدة أظهر تحركات الإدارة المصرية كأنها تتم بصورة لا تحوي غطاء أميركيا قويا، ما أثر سلبا على تصرفاتها في الملفات الأربعة.
وجاءت أهمية زيارة بلينكن إلى المنطقة من الأوضاع الإقليمية والدولية الحرجة التي تواجه فيها واشنطن تحديات كبيرة في وقت تفتقر فيه إلى حلفاء أقوياء في المنطقة، فهؤلاء، مثل السعودية ومصر وتركيا، خفضوا سقف توقعاتهم منها بعد أن تبنت سياسات لم تخدم مصالحهم كثيرا، ما أدى إلى تطوير العلاقات مع روسيا.
ويضيف المراقبون أن الولايات المتحدة تريد سد الثغرات التي أدت إلى ابتعاد القاهرة عنها نتيجة عدم الثقة في توجهاتها، ما تسبب في ارتباك بعض تصوراتها في المنطقة، لكنه أدى إلى حثها على العمل على استعادة جوارها قبل أن تبتعد المسافات بينهما.
ويهدف توسيع القضايا التي شملتها زيارة بلينكن إلى القاهرة عن مسارها المعلن، وهو ما يجري في الأراضي الفلسطينية، إلى تعزيز العلاقات مع مصر من خلال الإيحاء بدعمها في عدد من الملفات التي تمثل منغصا كبيرا لها.
الولايات المتحدة تريد سد الثغرات التي أدت إلى ابتعاد القاهرة عنها نتيجة عدم الثقة في توجهاتها
وبحث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع بلينكن دور القاهرة في تحقيق الاستقرار الإقليمي والمساهمة في تهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، والدفع نحو التسوية السياسية في ليبيا والسودان، والتوصل إلى حل لأزمة سد النهضة.
واعتبرت عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وأستاذة العلوم السياسية نورهان الشيخ أن زيارة بلينكن أتت في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة إلى الملفات الإقليمية المطروحة، فالولايات المتحدة يبدو أنها تريد التعويل في المرحلة المقبلة على مصر كوسيط مقبول من الأطراف الرئيسية، ويهمها أن تختبر المدى الذي يمكن أن تصل إليه العلاقات، لأن عينها لا تفارق التعاون الممتد بين القاهرة وموسكو.
وأضافت لـ”العرب” أن ميزة القاهرة أنها تمتلك أدوات مختلفة للوساطة في الأزمات تتسم بالهدوء ورفض النزاعات والصراعات، لكن هناك تحديات تعترض طريقها لتقوم بكل المهمات المطلوبة منها.
ووصف لافروف خلال لقائه مع شكري في موسكو موقف مصر بأنه “متوازن ومدروس في مختلف القضايا”، مؤكدا أن موسكو “يهمها هذا الموقف.. وأن البلدين يتبادلان التعاون في إطار الأمم المتحدة، ونشهد محاولات من بعض أعضاء المجتمع الدولي (لم يسمهم) لفرض قواعد لا يعرفها أحد كبديل لميثاق الأمم المتحدة”.
وأوضحت الشيخ لـ”العرب” أن الإدارة الأميركية لا تريد أن تذهب للضغط على مصر بشكل يدفعها إلى رفع التعاون مع روسيا إلى مستوى كبير، وتقبل بالحد الأدنى منه لتظل محتفظة لنفسها بعلاقات متوازنة مع القاهرة، ولا تغير الثانية موقفها المعلن من الأزمة الأوكرانية، حيث ترفض الحل العسكري ولا تشارك في العقوبات على روسيا ولها علاقات جيدة معها، وهذه وضعية سياسية مقبولة لواشنطن حاليا.