المثقف وثقافة المقاومة في فكر الفلسطيني إدوارد سعيد

تواصل الباحثة والناقدة المصرية ناهد راحيل إثراء المكتبة العربية بالدراسات النقدية والبحوث والتي كان آخرها كتاب “ثقافة المقاومة في فكر إدوارد سعيد”، وفيه تتناول الناقدة بالدرس والتحليل انشغال المفكر الفلسطيني الراحل بصياغة مفهوم المثقف وصوره ومهامه ودوره في مواجهة السلطة، بالإضافة إلى إستراتيجيات سعيد الذي عاش طوال عمره في الولايات المتحدة، لمقاومة أشكال الهيمنة الثقافية الغربية.
القاهرة- كان المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن الماضي سواء من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحدا من أهم عشرة مفكرين تأثيرا في القرن الماضي. ومن أبرز اشتغالات المفكر الراحل اهتمامه بطرح فلسفته الخاصة للمثقف ورؤيته للثقافة كفعل مقاومة للهيمنة والسيطرة والقوالب الجاهزة والآراء الفردانية والخضوع الفكري والأيديولوجي للسلطة بكل أوجهها السياسية والدينية، حتى أنه لطالما شدد على خطورة تخلي المثقف عن التزامه بالقضايا الإنسانية الكبرى وامتلاكه وعيا نقديا.
وصدر حديثا عن دار العربي للنشر والتوزيع كتاب جديد للناقدة المصرية راحيل، بعنوان “ثقافة المقاومة في فكر إدوارد سعيد”، وهو الكتاب الحاصل على جائزة سعيد في الفكر التنويري العربي ونقد الفكر الاستشراقي في العام 2021. وفيه تناقش الباحثة انشغال المفكر المصري الراحل بسؤال المثقف ودوره في مواجهة السلطة، حيث أجابت مقارباته الفكرية عن هذا السؤال بحديثه عن تمثلات المثقف وصوره.
ويعرض سعيد (1935 – 2003) في مقدمته لكتاب “صور المثقف” لمهام المثقف بقوله “إن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحدّ كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري”، واهتم سعيد بالقضايا الإنسانية، ولتحديد دور المثقف في قدرته على مواجهة أشكال الهيمنة والاستبداد، نجده يهتم أيضا بطرح التساؤلات عمّا يمكن أن يواجه المثقف ويشكل عقبة أمام أداء مهامه الخاصة بمراجعة السلطة ومقاومة هيمنتها وتنفيذ مقولاتها وتفكيكها.
وتقول الناقدة المصرية إن سعيد يقارب سؤال الثقافة في كتابه “العالم والنص والناقد” من خلال علاقة النقاد بها من حيث القرابة أو التقرب؛ من خلال محاولة الإجابة عن تساؤله الخاص بـ”ما معنى أن يمتلك المرء وعيا نقديا”؛ حيث يرى أن الوعي النقدي يقف في منطقة وسط بين قوتين، الأولى هي الثقافة التي ارتبط بها النقاد بالقرابة (بالولادة والانتماء القومي والمهنة)، والثانية هي الطريقة أو المنظومة التي يكتسها النقاد من خلال التقرب (بالقناعة الاجتماعية والسياسية وبالظروف الاقتصادية والتاريخية وبالجهد الشخصي).
ولكي يمتلك الفرد وعيا نقديا يجب عليه مقاومة تلك القوتين وأن ينعزل عنهما فـ”الوعي الفردي المنعزل، المعارض للبيئة المحيطة والمتحالفة مع الطبقات والحركات والقيم المناوئة، هو صوت معزول وخارج المكان الصحيح لكنه حيز كبير جدا من المكان وواقف بمنتهى الوعي ضد العقيدة السائدة لمناصرة مجموعة من القيم المعروفة جهارا بأنها عمومية أو رحيمة، ومجموعة تذكي مقاومة محلية مهمة ضد هيمنة ثقافة واحدة، وواقع الحال يدل أيضا على أن المثقفين، وبموافقة كل من بيندا وغرامشي، مفيدون غاية الفائدة في تفعيل الهيمنة”.
فمثلما يقف المثقف صاحب الوعي الفردي المنعزل أمام أشكال الهيمنة، هناك المثقف المفيد في تفعيل صور الهيمنة حيث يصبح امتدادا لأدوات السلطة ومرددا لخطابها، وقد أشار سعيد في معرض تناوله لتمثلات المثقف وصوره إلى عدد من المفكرين اهتموا بالعلاقة بين المثقف والسلطة وخصصوا لها الأدوار التي تؤطرها، ومنهم: أنطونيو غرامشي، جوليان بيندا، جان بول سارتر، ميشيل فوكو.
وتوضح مؤلفة كتاب “ثقافة المقاومة في فكر إدوارد سعيد” أنه يتناول الإستراتيجيات التي تبناها سعيد في مقاومة أشكال الهيمنة الثقافية الغربية، خاصة بعدما تخلت الثقافة عن ارتباطها بالنخبة وغدت مساحة للتثاقف والتداخل، ويؤسس لأفكاره عبر قسمين رئيسين اهتم الأول، الذي حمل عنوان “الثقافة ودور المثقف”، بتناول مقاربة سعيد لسؤال الثقافة ودحضه لشمولية الثقافة وخطابها النخبوي، وبيان دور المثقف المقاوم والذي تحدد في مقاومة أشكال الهيمنة الثقافية، في حين اختصّ الثاني، الذي حمل عنوان “إستراتيجيات المقاومة”، بعرض أساليب تقويض الهيمنة الثقافية للغرب من خلال نقد الخطاب الاستشراقي وتفكيك الرواية الإمبراطورية التي لازمت المشروع الاستعماري عبر المقاومة بالسرد المضاد.
وتقول الباحثة “في دعوة سعيد للمثقف لتبنّي مواقف ملتزمة، نجده يشير إلى ضرورة تجاوز فكرة الالتزام السياسي وتبنّي مفهوم الالتزام الإنساني؛ بأن يكون المثقف منشغلا بقضايا الإنسان ورافضا كل أشكال الهيمنة والسيطرة. وهنا نشير إلى النموذج الثالث من المثقفين الذين ذكرهم سعيد في معرض حديثه عن صور المثقف –ولو بشكل لمحي – هو مفهوم المثقف الملتزم الذي أسس له جان بول سارتر في كتابه دفاع عن المثقفين”.
ويرى سعيد أن الانتماء إلى ثقافة أو مؤسسة أو منظومة قد يؤثر سلبا على المنتج المعرفي وعلى دور المثقف في مساءلة التراث الثقافي، لأن الانتماء سلطة على الأفراد، ومن هنا يدافع عن المثقف اللامنتمي أو المثقف المستقل البعيد عن السلطة، وما يفرضه الانتماء من تبعات خاصة بضرورة الولاء.
◙ الانتماء إلى ثقافة أو مؤسسة أو منظومة قد يؤثر سلبا على دور المثقف في مساءلة التراث الثقافي
لذلك يحذّر من حدود التخصص الذي يسلم إلى ما يعرف بالاحتراف المهني، ذلك لأن التخصص يقود صاحبه إلى الانحياز والابتعاد عن النزاهة الفكرية والنقدية، ووجد سعيد أن تلك الطبقة تتجسد في النخب الجامعية التي خلقت لنفسها إطارا مرجعيا يتمثل في المعرفة المتخصصة المترفعة عن خوض الشؤون السياسية، مما منح خدمة جليلة للسلطة في استغلال انعزالها، ووظفتها لتوطيد سياساتها وهيمنتها، وهو ما اعتبره سعيد من الأخطار التي تهدد دور المثقف.
ولذلك يدافع سعيد عن “المثقف الهاوي” مقابل المثقف الاحترافي، وتتحدد دلالة الهواية في الاعتراف بالمثقف بوصفه فردا مفكرا منشغلا بقضايا العوام من الناس، ثم الانخراط في الحياة والوعي برهاناتها وصعوباتها وتحدياتها، من خلال المساهمة النقدية والقرائية التي تتصل بالقضايا الإنسانية بعيدا عن سلطة التخصص والحرفية المهنية؛ فإن “روح المثقف أو المفكر باعتباره من الهواة، قادرة أن تنفذ إلى شؤون المهنة المعتادة التي يعهدها معظمنا فتحولها إلى شيء أكثر حيوية وأكثر راديكالية، فالمفكر قد لا يكتفي بأن يفعل ما يفترض فيه أن يفعله، بل إنه يسأل عن سبب فعله له، وعمّن يستفد بذلك، وكيف يمكن لذلك العمل أن يرتبط من جديد بمشروع شخصي وبأفكار أصيلة”.
وتشير راحيل في نهاية الكتاب إلى حديث سعيد عن التحدي الأكبر الذي يمكن أن يحد من دور المثقف، والذي أسماه بـ”التفادي” أو التخلي عن الثبات وعدم الالتزام تجاه القضايا الإنسانية المصيرية، ومن ثم تحييد “العادات الفكرية” التي هي مصدر الفساد لدى المثقف بلا منازع، فلا هناك “ما هو أجدر بالاستهجان ممّا يكتسبه المثقف من عادات فكرية تنزع نحو ما يسمّى التفادي، أي النكوص أو التخلي (الذي يمارسه الكثيرون) عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ، على صعوبة ذلك، وهو يعلم علم اليقين أنه الموقف الصائب ولكنه يختار ألا يلتزم به، فهو لا يريد أن يظهر في صورة من اكتسب لونا سياسيا أكثر مما ينبغي له، وهو يحاول ألا يظهر في صورة من يختلف الناس عليه”.

◙ روح المثقف الهاوي قادرة أن تنفذ إلى شؤون المهنة المعتادة فتحولها إلى شيء أكثر حيوية