اليوم الأخير في عمر إذاعة بي.بي.سي عربي.. "الزمن يتغير ولكن لا يتوقف"

الإعلام الجديد يكسب: خطط لتسريع وتيرة التحول الرقمي لزيادة التأثير وتوفير النفقات.
السبت 2023/01/28
نهاية زمن وبداية آخر

انتهت رحلة إذاعة “بي.بي.سي عربي” عبر الأثير بسبب خطط التحول صوب المحتوى الرقمي والأزمة المالية التي تمر بها هيئة الإذاعة البريطانية التي دفعت إلى تقليص النفقات، ليقتصر حوالي نصف عدد الخدمات الـ41 التابعة لـ”بي.بي.سي” على تقديم محتوى رقمي.

لندن - توقف بعد ظهر يوم الجمعة بث إذاعة “بي.بي.سي عربي” عبر الأثير نهائيا، معلنة نهاية خدمة إعلامية استمرت لنحو 85 عاما. وأعلنت هيئة الإذاعة البريطانية أن يوم السابع والعشرين يناير 2023 سيكون موعد انتهاء الرحلة التي انطلقت عام 1938، بنت خلالها الإذاعة “ثقة كبيرة” مع مستمعيها حول العالم.

ومنذ مطلع يناير الماضي، عاش مستمعو إذاعة “بي.بي.سي عربي” مرحلة التوقف التدريجي عن البث الذي اكتمل الجمعة. ومن المقرر أن يظل محتوى الإذاعة متاحا عبر الموقع الإلكتروني للهيئة، ومنصات “بي.بي.سي” للتواصل الاجتماعي وأبرزها فيسبوك وتويتر وإنستغرام.

وكشفت الإذاعة عن قرارها بالاستناد على شعار “الزمن يتغير ولكن لا يتوقف”، معلنة عن بدء خطط لتسريع وتيرة تحول خدماتها صوب المحتوى الرقمي وزيادة التأثير الجماهيري حول العالم، في ظل مساع حثيثة من أجل توفير النفقات. وأكدت الهيئة البريطانية في عدد من بياناتها أن قرار الإغلاق “يتماشى مع التغيرات التي طرأت على احتياجات الجمهور حول العالم، وتحول المزيد من الناس صوب المنصات الإخبارية الرقمية”.

وتفاعل ناشطون عرب على مواقع التواصل الاجتماعي مع خبر التوقف وموت عبارة “هنا لندن” التي اعتادوا على سماعها لعشرات السنين، فكتب الصحافي العراقي مصطفى كامل في تغريدة على تويتر:

وعلق مغرد:

وعلى مدار سنوات استضافت إذاعة “بي.بي.سي عربي” أبرز المفكرين والكتاب والنجوم، بينهم أم كلثوم وفاتن حمامة وفيروز ونجيب محفوظ ومحمد عبدالوهاب وغيرهم. وكانت دقات ساعة “بيغ بن” وكلمتا “هنا لندن” مدخل الكثيرين من مستمعي إذاعة “بي.بي.سي عربي” عبر الأثير.

ففي الثالث من يناير 1938 خرجت إذاعة “القسم العربي” في “بي.بي.سي” إلى الوجود. ودخلت إلى الملايين من البيوت العربية وسرعان ما تطورت خدمة القسم العربي في النصف الثاني من القرن الماضي، حتى أصبحت سيدة المشهد ومدرسة يحتذى بدقة خط تحرير صحافييها في نقل وتحليل وتقديم الخبر في الإعلام الناطق بالعربية. وبعد سنوات معدودة على انطلاقها أضافت “بي.بي.سي عربي” إلى صوتها، الذي أضحى يصدح في كل مكان، مجلات مكتوبة اتسع انتشارها عبر الوطن العربي مثل “المستمع العربي” و”هنا لندن” و”المشاهد السياسي”.

وظل القسم العربي في “بي.بي.سي” رائدا في مجال الإعلام المسموع حتى بداية القرن الحادي والعشرين عندما بدأ التقدم التكنولوجي يزحف لمزاحمة الإعلام المكتوب والمسموع وإزاحتهما عن الصدارة. وأتاح انتشار استخدامات الكمبيوتر والإنترنت متابعة الأخبار عبر القنوات الفضائية التلفزيونية، والتفاعل معها عبر الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي.

التنافس بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد تحول إلى ما يشبه معركة كسر العظام للظفر بأكبر عدد من المتابعين

ولقي هذا الزحف التكنولوجي تجاوبا من فئات عريضة من جمهور القراء والمستمعين والمشاهدين حول العالم، وطرأت تغيرات كبيرة على احتياجاتهم وتنوعت خياراتهم في المنتوج الإعلامي المتاح.

ومع توالي السنوات تحول المزيد من مستهلكي المواد الإعلامية صوب المنصات الإخبارية الرقمية. وتم كل ذلك بفضل التقدم التكنولوجي لكن على حساب الإعلام التقليدي المكتوب والمسموع. وواكبت “بي.بي.سي عربي” هذا التحول وانتقلت إلى عصر الوسائط المتعددة، وأصبح موقعها جريدة إلكترونية تنقل محتوى “بي.بي.سي” نصاً وصورة وبالفيديو والصوت، كما غدت موادها حاضرة في مواقع التواصل الاجتماعي.

وفيما تحول التنافس بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد إلى ما يشبه معركة كسر العظام للظفر بأكبر عدد من المتابعين، وجدت العديد من الشركات الإعلامية الحكومية والخاصة عبر العالم نفسها أمام تحديات مالية اضطرتها إلى الاختيار بين احتلال مراتب متدنية من حيث عدد المتابعين أو مواكبة الانتقال الذي أملته تكنولوجيا الإعلام. وهذا بالذات هو الوضع الذي وجدت الخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية نفسها فيه خلال السنوات القليلة الماضية.

فقد دفع ارتفاع معدلات التضخم وزيادة كلفة التسوية الخاصة برسوم البث، المسؤولين إلى خيارات صعبة طالت معظم خدماتها حول العالم، إذ بات يتعين على الخدمة العالمية لـ”بي.بي.سي” توفير 28.5 مليون جنيه إسترليني كجزء من 500 مليون جنيه إسترليني من النفقات السنوية. وتبين أن ذلك لن يتأتى إلا بإغلاق عدد من إذاعات البث بلغات مختلفة وتقليص عدد الصحافيين والموظفين عبر مختلف أقسام المؤسسة وإعادة استثمار أرصدتها والتوجه بها صوب الرقمية.

انتهت رحلة إذاعة "بي.بي.سي عربي"
انتهت رحلة إذاعة "بي.بي.سي عربي"

وتجاوبا مع هذه الضغوط وسط تنافس إعلامي حاد، وضعت خدمة “بي.بي.سي” العالمية خطة أعلنت عنها في سبتمبر الماضي. وقضت الخطة بتسريع وتيرة تحولها صوب المحتوى الرقمي تحت قيادة رقمية جديدة تطور ما تقدمه من محتوى لمتابعيها.

 وشملت خطط خدمة “بي.بي.سي” العالمية إغلاق البث الإذاعي باللغات العربية والفارسية والقرغيزية والهندية والبنغالية والصينية والإندونيسية والتاميلية والأردية وتحويل سبع لغات أخرى إلى المحتوى الرقمي فقط.

وبذلك سيقتصر حوالي نصف عدد الخدمات الـ41 التابعة لـ”بي.بي.سي” على تقديم محتوى رقمي، علما أن نسبة مشاهدات المحتوى الرقمي للغات الخدمة العالمية تضاعفت وانتقلت من 19 في المئة عام 2018 إلى 43 في المئة اليوم.

ويقول محمد يحيى رئيس تحرير الوسائط المتعددة في “بي.بي.سي عربي”، “إننا نسعى لمواكبة متابعينا عبر المنصات الرقمية التي يختارونها. ولهذا السبب من الضروري أن نطور عرضنا الصوتي عبر تلك المنصات”.

ويضيف يحيى “أعتز أيّما اعتزاز بكل الزملاء والزميلات الصحافيين الذين انتسبوا إلى القسم العربي على مدى السنوات وقدموا مواد إعلامية كان لها وقع بالغ وتأثير كبير، وساهموا في استمرار راديو ‘بي.بي.سي عربي’ (…) إني ممتن أيضا للملايين من مستمعينا الذين رافقوا راديو ‘بي.بي.سي عربي’ منذ أكثر من ثمانية عقود (…) هناك حوالي 40 مليون شخص يضعون ثقتهم في ‘بي.بي.سي عربي’ أسبوعيا لاستقاء الأخبار (…) سيبقى التزامنا بتقديم صحافة موضوعية ومستقلة للعالم العربي في صميم أولوياتنا ونحن نستعد لدخول مرحلة مثيرة من التوسع الرقمي”.

وفيما يتوقف بث راديو “بي.بي.سي عربي” نهائيا، ستظل بعض البرامج الإذاعية متاحة على موقع BBCArabic.com وصفحة “هنا لندن”. وسيتولى فريق رقمي جديد مهمة تطوير إستراتيجية رقمية مفصلة، تماشيا مع خطة خدمة “بي.بي.سي” العالمية والهادفة إلى التركيز على إنتاج محتوى رقمي يرفع من تفاعل متابعيها عبر العالم. وتهدف “بي.بي.سي” من كل هذا إلى أن تصبح مؤسسة إعلامية رقمية رائدة.

5