نعمة النسيان

حين يكتب المرء مذكراته، فإنه يحرص على أن ينسى أكثر مما يتذكر، ولهذا يمكن القول إن التاريخ الحقيقي قد لفّه النسيان.
السبت 2023/01/21
ننسى أكثر مما نتذكر

يغبط بعضنا البعض الآخر لأنه ينعم بذاكرة قوية، وفي المقابل هناك مَن يهمس في أذنك "أنت سعيد لأنك تنسى". وما الحياة إلا معادلة، طرفاها الذاكرة والنسيان.

يتمنى الإنسان لو أنه حصر ذاكرته بما يسعده، بمعنى أنه في الوقت الذي يسعى لأن يتذكر، يجهد نفسه لكي ينسى. وهو ما دفع بشاعر التشاؤم أبي العلاء المعري إلى أن يقول "تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد"، وما التعب هنا إلا التنقل بين التذكر والنسيان.

تقول ميادة الحناوي "يلي مكتوبلي أحبك/ بعد عمري كمان/ أنت مكتوبلك يا بختك/ نعمة النسيان"، والعلاج بالنسيان هو وصفة نظرية غير أنها لن تكون متاحة دائما ولكل إنسان.

فتجربة الحب على سبيل المثال تختلف في عمق تأثيرها بين شخص وآخر. غير أن ما لا يختلف عليه اثنان أن الفشل في علاقة غرامية إنما يكمن علاجه في النسيان، وهو أمر صعب.

يقول العراقي محمد عبدالمحسن "أحاول أنسه حبك والقلب ما يريد/ أحاول ابتعد عنك غرامي يزيد".

وكانت أم كلثوم قد سبقته حين غنت من ألحان بليغ حمدي "أنساك يا سلام/ أنساك ده كلام/ أهو دا اللي مش ممكن أبدا”، ولهذه الأغنية حكاية ظريفة.

كان العبقري زكريا أحمد قد لحّن جزءا منها قبل وفاته فطلبت أم كلثوم من محمد فوزي أن يلحنها مرة أخرى.

حين زار الملحن الشاب بليغ حمدي صديقه فوزي وجد كلمات الأغنية مكتوبة على ورقة أمامه فقام بتلحينها، فيما كان فوزي منشغلا بلقاء آخرين في غرفة أخرى.

ذهب الاثنان بالأغنية ملحنة إلى أم كلثوم فأعجبت بها وفي ظنها أن محمد فوزي هو الذي قام بتلحينها. غير أن فوزي فاجأها بالحقيقة وهو ما فتح أبواب المجد أمام بليغ الذي سيكون أصغر الصاعدين إلى القمة على سلم كوكب الشرق.

لا أعتقد أن بليغ لم يعان يومها من ضغط الأغنية التي لحنها محمد عبدالوهاب لعبدالحليم حافظ "أهواك/ واتمنى لو أنساك/ وأنسى روحي وياك/ وإن ضاعت تبقه فداك لو تنساني" التي ظهرت عام 1959، فيما غنت أم كلثوم "أنساك" عام 1961. من قمة هرمها لم تكن أم كلثوم تفكر في العندليب الأسمر. وهو ما يمكن أن يكون نوعا من التناسي. ولكن النسيان ليس مرضا بل هو عادة. ننسى من أجل أن تكون الحياة ممكنة.

وحين يكتب المرء مذكراته، فإنه يحرص على أن ينسى أكثر مما يتذكر، ولهذا يمكن القول إن التاريخ الحقيقي قد لفه النسيان.

18