طفول سالم: على المبدع أن يكون في علاقة متينة مع مجتمعه

ينجح الكثير من الكتاب من خلال اتصالهم الوثيق ببيئاتهم وعدم تنصلهم منها، وبذلك يكون أدبهم أكثر حياة وأكثر تأثيرا حتى لو ترجم إلى لغات أخرى، ولنا في نجيب محفوظ خير دليل على ذلك. هذا التوجه اختارته الكاتبة العمانية طفول سالم فكانت جل أعمالها ابنة بيئتها بامتياز، وهو ما نتعرف عليه في الحوار التالي معها.
خميس الصلتي
مسقط - تأتي تجربة الكتابة لدى الكاتبة العُمانية طفول سالم لتوجِد ذلك التوافق بين السرد وخصوصية المكان، فهي عادة ما تتحد معه في سياقات زمانية متعددة، وتكاد لا تخرج من نطاقه في ظروف شتى، وعلى الرغم من تعدد نتاجاتها الأدبية إلا أن تلك النتاجات تنتصر للأرض وحيثياتها وما يؤثث ذلك من أفكار متعددة شتى.
وللكاتبة مجموعة من الإصدارات في سياق السرد التي كونت تجربتها على مدى سنوات الكتابة، ومن بينها “ربشون وحارس الجبال” و”شصوري” و”في قلب أختي يسكن مسعود القزم”، كل تلك الإصدارات حاولت إيجاد وقع غير نمطي مع أسلوب الكتابة.
بطولة المكان والزمان
تتحدث سالم عن ماهية الإصدار القصصي الجديد “شصوري”، وما جاء به من تفاصيل وأحداث ذات أبعاد وخصوصية مكانية وزمانية قائلة “إن ‘شصوري‘ هو عنوان لإحدى القصص التي تضمنتها المجموعة، واتخذتها عنوانا للمجموعة بأكملها عن قصدية ووعي، ويعود ذلك إلى أهمية العنوان في الدراسات الأدبية الحديثة؛ فالعنوان النص الأصغر لا يقل أهمية عن النص الأكبر (نص المتن القصصي)، فهو ينهض بجملة من الوظائف مثلما يذهب إلى ذلك شارل غريفال إذ هو يوحي ويمنح النص الأكبر دلالته، وهو بمثابة اللوحة الإشهارية التي تستقطب القارئ وتفتح لديه شهية القراءة، كما أنه الجسر الفاصل الواصل بين المبدع والمتقبِّل، إذ هو آخر ما يفكر فيه الكاتب وهو أول ما يواجه القارئ، لذلك أوليت هذه العتبة النصية ما تستحقه من اهتمام”.
وتضيف “شصوري اسم منطقة ساحليّة في ولاية مرباط من محافظة ظفار جنوب سلطنة عُمان، وهو اسم محلي موصول بجملة من الدلالات مرتبط بالهوية، فلا شك إذن أن يسهم هذا العنوان في وصل النص القصصي الإبداعي بهويته المكانية وبمختلف الأبعاد الرمزية التي تتصل بها، لذلك أعتقد أنه منذ عتبة العنوان يمكن أن يلتقط القارئ الذكي العلاقة الجدلية بين محلية المكان والأبعاد الرمزية التي تتصل به، والتي يغذيها النسج القصصي من خلال ما يتضمنه من تقنيات”.
وفي شأن العنوان تضيف طفول “الرمزية هنا ذات دلالة متوهجة ونافذة رؤيوية تمنح القارئ الواعي وعيا أوليّا بما يحمله العنوان من طاقة إيحائية تشد القارئ للولوج إلى عوالم المجموعة القصصية وسبر أغوارها واكتشاف شفراتها الدلالية، فـ‘شصوري‘ مكان مخصوص يمتد بين البحر بمختلف دلالاته الرمزية الجمالية والقيمية والاجتماعية، والجبل بهيبته وشموخه، وعن هذه الأبعاد الرمزية الأولية تتناسل أبعاد أخرى عديدة يغذيها السرد ويشبعها الخيال وتتضمنها الحبكة، كل ذلك في إطار جدلية المحلية وهويتها والكوني الإنساني وقيمه”.
تعود بنا الكاتبة إلى المجموعة القصصية “في قلب أختي يسكن مسعود القزم”، فقد أعطت إشارات لحكايات تتقاطع أفكارها مع البوح بأسرار وخبايا رمزية للمكان، وهنا تشير إلى المجموعة ومسعود في ثناياها وتفصح أن “المكان بادي الحضور عندي بجلاء منذ مجموعتي القصصية ‘في قلب أختي يسكن مسعود القزم’، وفعلا فإن علاقة جدلية كانت كثيفة الحضور بين رمزية الأماكن وما تضمنته المجموعة من حكايات، وأما مسعود القزم فهو شخصية ورقية من نسج الخيال أشبع القصص بعطور القص والسرد، حاولتُ أن أتخذه قناعًا فنيًّا يعطي للقص عبقًا مخصوصًا”.
المتتبع لنتاج الكاتبة يجد توظيفها للمكان في السياق الأدبي بشكل كبير، وهنا تفسر طفول وعن الحيّز الزماني الذي شكّل الذاكرة الأدبية في السرد لديها قائلة “الزمان والمكان من الخصائص الأساسية للقصة القصيرة عمومًا، وما يميزها أنها تكون مرتبطة بحدث معين أو مكان معين أو غيرهما”.
وترى أن المكان في السياق الأدبي ليس مجرد وعاء يحوي حدثا أو أحداثا، بل إن المكان يتجاوز ذلك بكثير؛ فهو الدافع والقادح للأفعال والأحداث وكثيرا ما تُصبغ الأحداث وتلوَّن وفق طبيعة المكان ورمزيته، بل إن الشخصيات تستمد هويتها وتركيبتها من هوية المكان وطبيعته وبالتالي فالمكان حيزا كان أم فضاء مفتوحا، له أثره وتأثيره على الأحداث والقص وتشكيل النص عموما.
وتتابع “أما الزمان فهو الآخر يُعد عصب القص الرئيسي وبه يتميز نص الخطاب عن نص الحكاية عبر تصرف القاص في تشكيله تتابعا مرة واسترجاعا أخرى واستباقا ربما، وكلما تمكن القص من لعبة الزمن إلا وازداد نصه قصصية، لذلك حاولت أن أوليهما – المكان والزمان – ما يستحقان من عناية كل ذلك في إطار أدبية النص من جهة والتمسك بالهوية من أخرى”.
هنا تشير الكاتبة العمانية إلى العناصر السردية التي من الممكن أن تكوّن الإبداع في الكتابة، ونوع تقنية الكتابة التي تعتمدها في السياق السردي، فتقول “الكتابة نسيج كلّما ازداد تظافرا كلما ازداد النص إبداعا، فالكتابة هي كل متعالق في حركة جدلية لا يمكن الفصل بين تقنية وأخرى، وهذا التعالق بين التقنيات على اختلافها وبمقادير معينة وحضور مخصوص؛ هو الذي يعطي لكل مبدع خصوصيته وأسلوبه، إضافة إلى أهمية اللغة ووصلها بالبلاغة والمجاز، إضافة إلى إتقان الحبكة ورفع مستوى التشويق بتقدم حركة السرد بالاعتماد على تسلسل الأحداث، من خلال تحريك شخصيات متباينة في التّفكير والسلوك، بجعلها تقوم بأدوارٍ مختلفةٍ، وصولًا إلى النهاية، ويجري كل ذلك في زمان ومكان محدَّدَين”.
بصمة خاصة
في تأثير المجتمع على الحالة الإبداعية في نصوص طفول سالم القصصية السردية تبيّن الكاتبة آليات ظهورها والمعالجة الفنية التي تعمل على الاشتغال عليها في معالجة القضايا التي يتم طرحها بين ثنايا السرد، وتوضّح قائلة “عمومًا، الفن والأدب كما يعرّفه أدونيس هو ‘قفزة خارج المفهوم السائد‘ في شكله التعبيري، ولكن ذلك لا يعني أنه في قطيعة مع الواقع والمجتمع، فالمبدع يجب أن يكون في علاقة متينة مع مجتمعه موصولًا بواقعه وقضاياه”.
وتتابع “الحقيقة أن لمجتمعي أثرًا إيجابيًّا وأيّ أثر؛ فالحزام الاجتماعي الذي يحيطني كثيرًا ما كان عونًا لي لأكون ما أنا عليه دافعًا لي ومشجعًا، إضافة إلى ما يدور في المجتمع الذي ننتمي إليه ونعيش فيه هو الذي منه نلتقط رؤانا الإبداعية ثم نطورها في مصهر اللغة والتخييل، لذلك فإن الكتابة تنطلق من واقعها ومجتمعها لتجنح عبر الخيال والمخيلة ثم ترتد إلى الواقع لتتصل بالمجتمع، خاصة وأن كثيرا من أقاصيصي ذات نزعة اجتماعية ونفسية موصولة أصلا بمجتمعي الذي أنتمي إليه وأعيش فيه بشكل ما، وبالتالي فإن تأثّري بالمجتمع جلي وأثره في اعتقادي دافع وخلاّق”.
الزمان والمكان من الخصائص الأساسية للقصة وما يميزها أنها مرتبطة بحدث معين أو مكان معين أو غيرهما
رواية “ربشون وحارس الجبال” تحمل بين طياتها الكثير من المتضادات التي تتقاطع في رؤاها، خاصة الحكايات والأساطير الظفارية، وهنا تتحدث عن تفاصيل وما يقوله حارس الجبال من خلال أسطرها قائلة “هي رواية فانتازيا بما هي تناول للواقع المعيش تناولًا غير مألوف في عدول وانزياح عما وقع توارثه من قبل فـ‘ربشون وحارس الجبال‘ رواية تتضمن الأساطير المعروفة في الشرق عمومًا وفي ظفار خاصة، وضمنتها بعضًا من أشعار ‘النانا‘ التي حاولتُ توظيفها في الرواية مع إرفاقها بترجمة حتى يستكنه القارئ من خارج ظفار معانيها، ويتعرف على نوع من الشعر المغرق في الشعرية طبعا مع مراعاة خدمة هذا الشعر للسياق السردي الروائي”.
وتبين سالم أن البعض من شخصياتها مستمد من أسماء الأماكن المعروفة وغير المعروفة أيضًا، مثل “فوروش، وربشون، وأشفلون، وشيرير، وسطح”، إذ تأتي تخليدًا لأسامائها وتذكيرًا للجيل الحالي بها، مع إيجاد صلة بين الإنسان والعالم الخفي الذي لطالما سمعنا عنه في حكايات الأجداد، وبعض العادات والتقاليد التي كانت سائدة حينها.
وحارس الجبال شخصية حامية لتلك الجبال وحافظة للأمن فيها من أيّ عبث يمكن أن تلحقه المخلوقات الخفية به؛ نظرًا إلى كونه مخلوقًا نجميًّا، نجده في الرواية يحث على الاستماع إلى الأرض وتصفية الذهن وإطلاق السمع، والاستمتاع بالطبيعة والتأمل فيها بعيداً عن ضغوطات الحياة ومشاكلها.
وتوضح أن روايتها “ربشون وحارس الجبال” أرادتها أن تكون مخصوصة لا تتبع منوالًا ولا تحتذي بسابق، فتقول “هي رواية جمعت بين المرئي والغيبي، رواية حب وصدق ووجدان، رواية صراع بين القيم؛ قيم الخير وقيم الشر بإخراجية وحبكة مخصوصة وشخصيات لم يألفها المتقبل فيما قرأ، ولكنها مخزّنة في ذاكرته من خلال حكايات الجدَّات والسابقين من الرواة والمسامرين، رواية مختلفة تماما عن السائد، عملت فيها على إعطاء الكتابة وتقنياتها ما تستحق من اهتمام وبلغة عربية موصولة بلغة الجبل وشعر النانا”.
