عودة العراق إلى النظام المالي العالمي زعزعت الدينار

استبعدت أوساط مالية عراقية تأويلات بعض السياسيين حول وجود قيود أميركية على بلدهم أضرت بالدينار، وربطوا تزعزع قيمة العملة المحلية مؤخرا بعودة القطاع المصرفي إلى نظام التحويلات الدولي (سويفت) الذي يتطلب التأقلم معه وفق معايير شفافة.
بغداد – يشهد سعر صرف الدينار العراقي منذ نحو شهرين تقلبات مقابل الدولار يعزوها خبراء إلى بدء البلد في الامتثال لإجراءات دولية على التحويلات المالية بالعملة الصعبة، فيما تحمّل أطرافٌ في البلاد الولايات المتحدة مسؤولية هذا التراجع.
وفيما يبلغ سعر الصرف الرسمي المثبت 1470 دينارا مقابل الدولار، تراجعت العملة المحلية منذ منتصف نوفمبر الماضي إلى 1600 دينار مطلع الأسبوع، قبل أن تستقر عند 1570، بحسب وكالة الأنباء الرسمية، أي أن العملة فقدت نحو 10 في المئة من قيمتها.
ولا يعتبر هذا التراجع ضخما، وفق المحللين، لكنه بدأ يثير قلق معظم العراقيين من ارتفاع أسعار المواد المستوردة كالغاز والحنطة على سبيل المثال.
ويقول مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية مظهر صالح لوكالة الصحافة الفرنسية إن “السبب الجوهري والأساسي” لهذا التراجع “هو قيد خارجي”.
وشكلت إزالة اسم العراق من القائمة الأوروبية للدول التي تتعلق بها شبهات غسيل الأموال في يناير 2021 نقطة تحول في مسار اقتصاده المنهك والذي يحاول المسؤولون ضمن مساعيهم المضنية إعطاء بارقة أمل للناس بسبب تراكم الأزمات.
لكن بعض السياسيين يعتبرون أن الولايات المتحدة تقف خلف هذا التقلب. واعتبروا أن الأميركيين يستخدمون “الدولار كسلاح لتجويع الشعوب”.
واتهم هادي العامري رئيس تحالف الفتح الممثل للحشد الشعبي الذي يضمّ فصائل موالية لإيران الثلاثاء الماضي الأميركيين بممارسة “الضغوط على العراق لمنع انفتاحه على أوروبا ودول العالم”.
ويكافح العراق الذي شهد حروبا وفترة حصار طويلة منذ أكثر من أربعة عقود، بحثا عن حلول تساعد في تحفيز القطاع المالي حتى يسهم بدور فعال في تنمية الاقتصاد الذي ظل متوقفا منذ الغزو الأميركي في 2003 عبر تخفيف مستوى البطالة وتضييق دائرة الفقر.
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد الطبقشلي أنه “على عكس الشائعات والمعلومات المغلوطة، فإنه لا دليل على وجود ضغط أميركي على العراق”، الشريك الاقتصادي والتجاري الهام لإيران المجاورة.
وفي الواقع، يرتبط تقلّب الدينار ببدء امتثال العراق لبعض معايير نظام التحويلات الدولي (سويفت) الذي بات ينبغي على البنوك المحلية تطبيقه منذ منتصف نوفمبر الماضي للوصول إلى احتياطات البلد من الدولار الموجودة في الولايات المتحدة.
ووفق الطبقشلي، حتى يتمكّن البلد من الوصول إلى تلك الاحتياطات البالغة 100 مليار دولار، فإن عليه حاليا التماشي مع أنظمة “تتطلب الالتزام بأحكام مكافحة غسيل الأموال، وأحكام مكافحة تمويل الإرهاب، والمرتبطة بالعقوبات، كتلك المطبّقة على إيران وروسيا”.
وأضاف أن الأمر يتعلق بدخول العراق “ضمن نظام تحويلات مالي عالمي يتطلب درجة عالية من الشفافية”، لكن ذلك “سبب صدمة” للعديد من البنوك “لأنها غير معتادة على هذا النظام”.
ويرى كبار المسؤولين في الدولة والمشرفون على صناعة القرار النقدي أن القطاع المصرفي عليه التأقلم مع الوضع الجديد حتى يكون مواكبا للنظام المالي العالمي لأن ذلك قد يساعد في تخفيف الضغوط عن الدينار.
وأوضح صالح أنه ينبغي على البنوك العراقية حالياً تسجيل “تحويلاتها بالدولار على منصة إلكترونية وتدقق الطلبات، حيث يقوم الاحتياطي الفدرالي الأميركي (البنك المركزي) بفحصها، وإذا كانت لديه شكوك يقوم بتوقيف التحويل”.
وأكد أن المركزي الأميركي رفض منذ بدء تنفيذ القيود “80 في المئة من طلبات” التحويلات المالية للمصارف العراقية على خلفية شكوك متعلقة بالوجهة النهائية لتلك المبالغ التي يجري تحويلها.
وقد أثّر هذا الرفض على عرض الدولار في السوق العراقية. وفي المقابل تراكم الطلب لكن العرض لم يكن متسقا معه، وبالتالي تراجع سعر الصرف مع تراجع تحويلات المصارف بالدولار.
وتحدّث البنك المركزي العراقي في بيان الأسبوع الماضي عن عودة سعر الصرف إلى ما كان عليه خلال أسبوعين على الأرجح، واصفا “اضطراب أسعار الدولار” بأنه “حالة مؤقتة”.
وفي غضون ذلك، اتخذت السلطات إجراءات منها تسهيل تمويل تجارة القطاع الخاص بالدولار من خلال البنوك التجارية، وفتح منافذ لبيع العملة الأجنبية في البنوك الحكومية للجمهور لأغراض السفر.
وقرر مجلس الوزراء كذلك “إلزام الجهات الحكومية كافة ببيع جميع السلع والخدمات داخل العراق بالدينار وبسعر البنك المركزي والبالغ 1470 دينارا للدولار الواحد”.
ويرى صالح أن “هذه الإجراءات مهمة لأنها تظهر أن الدولة موجودة لحماية السوق والمواطنين”، وتساعد “على صد المشكلة”.
ويؤكد خبراء أن ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية تعتبر مشكلة أخرى تضاف إلى الأزمات التي تثقل كاهل العراقيين، خاصة وأنها تؤثر سلبا على معيشة الناس.
وعلى الرغم من تراجع الدينار لا تزال نسبة التضخم ضئيلة، حيث بلغت 5.3 في المئة بوتيرة سنوية في أكتوبر الماضي وفق وزارة التخطيط، لكن المخاوف الفعلية تتعلق بالقدرة الشرائية.
وبدأ سعد الطائي المتقاعد الذي يساعد ابنه في إدارة متجر صغير في حيّ الكرادة في العاصمة بغداد يشعر بأثر تقلبات سعر الصرف على قدرته الشرائية. ويقول إن “هذا التذبذب الذي يحصل مشكلة حقيقية للتاجر الذي يبيع بالمفرق وللمستهلك”.
ويضيف أن “رواتب العراقيين محدودة ويتقاضونها بالدينار العراقي. أنا كمتقاعد أستلم 494 ألف دينار. وحينما كان الدولار 1470 كانت قيمة راتبي 336 دولارا. اليوم على سعر صرف 1570 يصبح راتبي 314 دولارا”.
ويمر ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك بعد السعودية بالعديد من الأزمات، فقد بلغ معدل الفقر 25 في المئة من تعداد سكان يبلغ 42 مليون نسمة، فيما تشير أرقام البنك الدولي إلى أن النسبة عند 40 في المئة.
وكانت وزارة التخطيط قد أكدت مرارا الفترة الأخيرة أنها تعد إستراتيجية لدعم الفئات الفقيرة وتحسين متطلبات العيش في مجالات الصحة والسكن والتعليم وتحسين الدخل وغيرها.
وفي خضم كل ذلك يشكل الفساد الذي كلّف البلد ما يساوي ضعفي ناتجه المحلي الإجمالي، أي أكثر من 450 مليار دولار، أبرز هموم العراقيين الذين يعانون من نقص في الكهرباء والمستشفيات والمدارس وغيرها من الخدمات الأساسية.