عربستان.. وطن يحاصر أفكار سكانه ويحاول قطع ألسنتهم

عراقيل جمة تضعها المؤسسات الحكومية الإيرانية للأهوازيين أمام الكتابة والنشر أو إنجاز مسرحيات وأفلام باللغة العربية.
الأحد 2023/01/15
الثقافة العربية غير مرحب بها في إيران

هناك تعريفات مختلفة للثقافة في القواميس لكن ما أراه مناسبا هو ذاك الذي يعرّف الثقافة بـ”النسيج الكلي من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد والقيم المقبولة والمرفوضة في المجتمع”. وسنلقي هنا نظرة سريعة على الثقافة الأهوازية الحديثة كالأدب والموسيقى والمسرح والسينما والفنون الجميلة والإعلام، وما يتم نشره عبر الصحف والكتب والمكتبات والفرق الموسيقية والمسرحية وغيرها.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن الحكومات الإيرانية المتعاقبة حالت منذ سنوات الشاه رضا البهلوي -الذي أسقط آخر حاكم عربي للإقليم في 1925 وحتى اليوم- دون تطور الاقتصاد والثقافة العربيين إثر هيمنة طبقة بورجوازية فارسية مقتدرة على مقاليد الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية لإمارة عربستان، التي كانت تتمتع باستقلال داخلي.

وقد أغلق النظام البهلوي -الشاه رضا وابنه الشاه محمد رضا- أبواب المدارس العربية في المحمرة والأهواز واستبدلاها بمدارس فارسية، ولم يسمح بنشر أي صحيفة عربية أو أي كتاب عربي أو حتى فتح أي مكتبة عربية ما عدا تلك التي كانت تصدر في طهران ممثلة في أسبوعية “الإخاء” ويومية “كيهان العربي”، التي كانت موجهة أساسا إلى السفارات والجاليات العربية غير الإيرانية، ولم تكن لها أي صلة بقضايا الشعب الأهوازي وهمومه.

والواقع أن مناسبات التعزية الحسينية واحتفالات الأعراس ومجالس التعزية، مثلت الفضاء غير الرسمي الوحيد لإلقاء الشعر الشعبي والفصيح وعرض الموسيقى والمسرحيات الشعبية القصيرة (التمثيليات) وكذلك بعض محلات بيع الأشرطة الموسيقية، وذلك في أجواء فارسية مدعومة حكوميا. فكان هناك مقابل العشرات من محلات توزيع الأشرطة الفارسية، ركنان لتوزيع الأشرطة العربية: تسجيلات ناصر الشميلي في حي النهضة (لشكرآباد) وتسجيلات المقدادي في حي آسيه آباد في الأهواز العاصمة، ومحل واحد في المحمرة.

وقد اختصر النشاط المسرحي في التمثيليات الشعبية التي كانت تعرض في الأعراس أو تسجل في أشرطة الكاسيت، منها ما قام به الفنان أحمد كنعاني والثنائي عيسى وبدن. وقد سُجن الأول في عهد الشاه لمواقفه السياسية القومية والأغنيات التي غناها لشهداء الحركة الوطنية الأهوازية آنذاك.

الحكومات الإيرانية المتعاقبة حالت منذ سنوات الشاه رضا البهلوي دون تطور الاقتصاد والثقافة العربيين

بعد نصف قرن من الاستبداد الشوفيني الشاهنشاهي كانت إقامة المراكز الثقافية في مدن المحمرة والأهواز والخفاجية والفلاحية هي الثمرة الأولى التي قطفها الأهوازيون من مشاركتهم -مع سائر الشعوب الإيرانية- في الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. غير أن هذه المراكز تعرضت لهجوم مسلح من قبل تحالف القوى الدينية الشوفينية والقوميين المتعصبين التابعين للسلطة الإسلامية الوليدة في نهاية يونيو 1979.

 وفي يوليو من العام نفسه أصدر المركز الثقافي العربي الإسلامي الذي أنشأته عناصر تابعة للسلطة -لمنافسة المركز الثقافي العربي ذي الاتجاه القومي- صحيفة حملت اسم “عرب إيران في الأهواز”، غير أنها لم تستمر إلا لثلاثة أعداد وكانت بحق أول صحيفة عربية تصدر في إقليم عربستان في العصر الحديث. ولم يخبرنا التاريخ عن وجود أي صحيفة عربية في عربستان، لا في عهد الشيخ خزعل ولا بعده.

فرغم سيطرة أجواء القمع والرعب في أعقاب أحداث المحمرة -التي أدت إلى مصرع المئات واعتقال الألوف من المواطنين العرب- أصدر عدد من النشطاء الأهوازيين في يوليو 1979 أسبوعية “الكفاح” التي يمكن اعتبارها صحيفة عربية مستقلة تصدر في إقليم عربستان. كما أصدر بعد فترة وجيزة نشطاء عرب تابعون لمنظمة فدائيي الشعب أسبوعية “النضال” التي هدفت إلى كسب الجماهير العربية. وكانت الصحيفتان شبه سريتين وصدرتا بالعربية والفارسية. “الكفاح” كانت تطبع وتصدر من الأهواز العاصمة، فيما كانت “النضال” تصدر في المحمرة. وفي التنافس بين “الكفاح” كصحيفة قومية تقدمية مستقلة (كما كانت تعرّف نفسها) و”النضال” التابعة لمنظمة يسارية ماركسية، كانت الأولى تحظى بإقبال جماهيري أكبر فقد انتشرت بسرعة بين الجماهير في طول إقليم عربستان وعرضه.

مع اندلاع الحرب الإيرانية – العراقية في سبتمبر 1980 قضى النظام الإيراني على كل نشاط سياسي وثقافي أهوازي فشهد شهر أغسطس صدور آخر عدد من صحيفة “الكفاح” ولم تكن قد بلغت عددها العاشر. وهكذا غدت احتفالات الأعراس ومجالس العزاء الفضاءين شبه الوحيدين لإلقاء الشعر الشعبي والفصيح وإلقاء الخطب الاجتماعية، وقد هجر معظم الناس مدنهم وقراهم خلال السنوات الأولى من الحرب (1980 – 1988).

على النشطاء والفاعلين الأهوازيين اليوم مواصلة العمل على إنشاء مواقع إلكترونية وصحف ورقية وإلكترونية وتأسيس دور نشر وفتح المكتبات والتأكيد على الاستمرارية في العمل الثقافي

في عهد هاشمي رفسنجاني (1988 – 1997)، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، تحركت الساحة الثقافية الإيرانية الآسنة، خصوصا في طهران. وشمل ذلك إقليم عربستان حيث بدأت مدينة الفلاحية تشهد بعض الحراك الأدبي فأقيم احتفال سنوي للشعر العربي بمناسبة ميلاد الإمام المهدي شاركت فيه قامات الشعر الشعبي والفصيح كفاضل السكراني وعباس العباسي وموسى الجرفي، وقُدمت خلاله الجوائز للشعراء الموهوبين. كما شهدت مدينة الخفاجية نشاطا مسرحيا وبذلك أصبحت الفلاحية مدينة الشعر والخفاجية مدينة المسرح.

وفي عهد الرئيس محمد خاتمي الموصوف بأنه إصلاحي، وإثر الانفتاح الجزئي في الأجواء السياسية، عادت الساحة الأهوازية لتشهد حراكا ثقافيا في مجال نشر كتب الشعر والقصة والتاريخ -باللغتين العربية والفارسية- وبالطبع كانت حصة الأسد للشعر الشعبي. كما أنشئت بضع فرق موسيقية ومسرحية وافتتحت مكتبات لبيع الكتب، غير أن الساحة شهدت عراقيل جمة أخذت المؤسسات الحكومية تضعها أمام الكتابة والنشر باللغة العربية، وظهر تمييز فاحش بين الدعم الذي يقدم للكتب والفرق الموسيقية والمسرحية الفارسية وبين ما يقدم لنظيراتها العربية، فالأقلية غير العربية في عربستان كانت تتمتع بحصة الأسد، فيما يُقدم الفتات للأغلبية العربية في الإقليم.

وفي هذه الفترة تم إصدار ثلاث صحف هي “الشورى” و”صوت الشعب” و”الحديث” باللغتين العربية والفارسية، إذ أن القانون الإيراني لا يسمح بأن تصدر صحف القوميات غير الفارسية -وهي قليلة جدا قياسا بالفارسية- إلا بلغتين: اللغة الفارسية ولغتها القومية. وفي عهد خاتمي باءت محاولات الأهوازيين المطالبين بالتعليم باللغة العربية في المدارس بالفشل. وقد جرى في تلك الفترة تأسيس 35 مؤسسة ثقافية ومدنية في الأهواز العاصمة.

من جهة ثانية أصبحت لدينا خلال العقدين الماضيين، وللمرة الأولى، سينما عربية أهوازية بفضل جهود مخرجين كمحمد رضا الفرطوسي وحبيب باوي الساجد، وذلك بعد مرور سبعين عاما على نشوء السينما الإيرانية. وللمرة الأولى شهدنا إصدار كتب روائية وقصصية باللغة العربية، منها ما هو موجه للأطفال، وبرزت بعض الكاتبات الأهوازيات؛ وكانت مريم لطيفي هي الرائدة في هذا المجال.

لوحة: أسعد عرابي
لوحة: أسعد عرابي

بعد الانتفاضة الشعبية بعربستان في أبريل 2005 وانتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للبلاد عدنا إلى المربع الأول، وهذا التقهقر ينطبق أيضا على سائر الشعوب الإيرانية. ولا توجد حاليا لنحو 6 ملايين عربي في جنوب وجنوب غرب إيران إلا شهرية واحدة هي “البيان” التي تصدر باللغتين العربية والفارسية وتخضع لرقابة أشد من تلك التي تخضع لها الصحف الفارسية. كما تم إغلاق بعض المواقع الثقافية، منها موقع “بروال”، ومُنعت مؤسسة “الهلال” الثقافية -وهي مؤسسة مستقلة- من النشاط، وزجوا بمعظم نشطائها في السجن، أبرزهم ماهر الدسومي وقيس الغزي وناجي السواري.

في السنوات الأخيرة انخفض النشاط الثقافي والفني في الإقليم بشكل ملحوظ، خاصة بعد الهجوم المسلح على منصة العرض العسكري في الأهواز في 22 سبتمبر 2018 واعتقال نحو 800 ناشط من المدنيين. كما تم اعتقال العديد من المثقفين والناشطين في الحقل الثقافي إثر السيول التي اجتاحت الإقليم في مارس العام الماضي، منهم المؤرخ حسين فرج الله كعب وعلي الخنفري، وذلك بسبب دورهم المستقل في إغاثة المناطق المنكوبة.

من موقعي كشاهد على مسار الحركة الثقافية الأهوازية خلال العقود الستة الماضية، يمكنني القول إن هناك تطورا ملحوظا في هذا المجال قياسا بما كانت عليه الحال قبل نصف قرن. فقد تفجرت الطاقات الثقافية للشعب العربي الأهوازي بعد قيام الثورة على الشاه رغم ما حدث من مصادرة لها من قبل رجال الدين والقوى المعادية لتطلعات الشعوب غير الفارسية.

ولا بد من التأكيد على أن التغيرات التي شهدها النشاط الثقافي خلال العقود الأربعة الماضية ما برحت مرتبطة بشكل حاسم بالأوضاع السياسية واتجاهات الحكومات المتعاقبة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فيتسع الوضع الثقافي باتساع رقعة الحريات وينكمش بانكماشها.

وما أراه خلاصة، أن على النشطاء والفاعلين الأهوازيين اليوم مواصلة العمل على إنشاء مواقع إلكترونية وصحف ورقية وإلكترونية وتأسيس دور نشر وفتح المكتبات والمؤسسات الثقافية المستقلة والتأكيد على الاستمرارية في العمل الثقافي، والعمل وفق نظرة مستقبلية إلى الأمور. ويحتاج هذا العمل -لاسيما في ظروف هذا الطور من النظام الاستبدادي في إيران والمواقف العنصرية الثابتة نحو العرب- إلى نفس طويل، وعدم توقع قطف الثمرات الآنية والسريعة.

وبالتالي ينتظر من النشطاء العرب في الأهواز، داخلا وخارجا، العمل بصورة احترافية لاسيما في التعامل مع أمور الرقابة الحكومية. ولا بد من أخذ الدروس من إخفاقات النشطاء السابقين. كما ينبغي ألا يتمركز النشاط الثقافي في العاصمة فقط، بل يجب أن تتحرك المدن الأخرى في الإقليم وتساهم بصورة أوسع في الحراك الثقافي والفني. وفي نظري أن مشكلة التمييز الثقافي لن تحل جذريا دون زوال نظام الاضطهاد القومي بأكمله ورفع الهيمنة الفارسية عن إقليم عربستان. لكن الوصول إلى تلك الثمرة التاريخية يستدعي ألا نهمل الأمور التي أشرت إليها ليمكننا أن نهيئ الأرض الصلبة لهذا الهدف التاريخي.

9