"شاعر أميركا الرسمي" الخامس عشر يودع العالم بهدوء

مازال هناك شعراء عالميون قادرون على فتح آفاق واسعة أمام الشعرية الإنسانية دون ارتكان إلى جهة أو صنف، فقط الشعر دون تعصب إلى جنس أدبي أو جغرافيا أو تاريخ أو غيره، ومن هؤلاء الشاعر الأميركي من أصول صربية تشارلز سيميك الذي فجع العالم برحيله مساء الاثنين.
لندن – توفي مساء الاثنين التاسع من يناير الجاري الشاعر الأميركي من أصل صربي تشارلز سيميك، الحائز على العديد من الجوائز، أشهرها بوليتزر وجائزة الولايات المتحدة، عن عمر ناهز الـ84 عاما، متأثرا بمضاعفات مرضية وفق تصريح صديقه ومحرره دانييل هالبيرن.
ويعتبر سيميك من أبرز التجارب الشعرية العالمية المعاصرة، ولقصائده انتشار كبير في شتى أنحاء العالم وخاصة في العالم العربي، إذ توجته المغرب من خلال مؤسسة “بيت الشعر” بجائزة الأركانة العالمية للشعر في دورتها الرابعة عشرة نظرا لخصوصية شعره الذي “يتحدى كل تصنيف مطمئن إلى معاييرَ ثابتة”.
يبدو المَسار الكتابي لسيميك الذي يَمتد على أكثر منْ نصف قرن، كما لو أنه يَنمو محَصنا ضد كل تصنيف جامد. فبقدر ما تنفذ قصائده إلى آلام الإنسان وأهوال الحياة، تنطوي أيضا على بعد ميتافيزيقي يَخترقها ويَكشف فيها عمّا يفيض عن الواقعي وعمّا يؤمّن للمعنى سَعَتَه وشساعته وتَعَددَ مَساربه، كما تنطوي، فضلا على ذلك، على تكثيف فكري ونَفس تأملي مَشدوديْن إلى مَقروء متنوع.
ولد سيميك (واسمه الحقيقي دوجان سيمتش) في بلغراد سنة 1938. غادر مسقط رأسه إلى باريس، وهو في الخامسة عشرة من عمره، صحبة أمه وأخيه، قبل أن يلتحقا، بعد بضعة أشهر، بأبيه الذي كان يعمل في الولايات المتحدة منذ نحو ست سنين.
مسار كتابي
استقرت العائلة، بداية، في نيويورك، ثم ما لبثت أن غادرت إلى شيكاغو حتى العام 1958، ثم عادت إلى نيويورك مرة أخرى، فعمل تشارلز في النهار بوظائف مختلفة حتى يكمل دراسته في المساء. ثم يتحقق الحدث الأدبي الأول في حياته، حين تنشر مجلة «شيكاغو ريفيو» في العام 1959 بعض قصائده التي كتبها أثناء إقامته القصيرة في شيكاغو.
المسار الكتابي للشاعر الذي يمتد على أكثر من نصف قرن يبدو كما لو أنه ينمو محصنا ضد كل قولبة أو تصنيف جامد
بيد أن مفاهيمه الشعرية ونظرته الجمالية إلى الأدب شهدت تحولا جذريا خلال سنتي خدمته العسكرية، فعمد إلى تمزيق قصائده المبكرة، لأنها لم تكن، على حد قوله، سوى «قيء أدبي». ثم، وبعد سنة من حصوله على درجة البكالوريس من جامعة نيويورك، نشرت دار «كاياك» بسان فرانسيسكو، مجموعته الشعرية الأولى «ما يقوله العشب» في العام 1967، لينطلق من هناك مع تعدد الإصدارات وتراكم التجربة الشعرية التي خوّلته ليكون اسما من أبرز الأسماء الشعرية العالمية.
أصدر سيميك نحو 36 كتابا شعريا، منها «تفكيك الصمت» (1971)، و”العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب» (1974)، و”قسوات» (1982)، و”تنبؤات جوية للمدينة الفاضلة وما جاورها» (1983)، و”كتاب الآلهة والشياطين» (1990)، و”فندق الأرق» (1992)، و”الصوت في الثالثة صباحا» (2003)، و”قرد في الجوار» (2006)، و”ذلك الشيء الصغير» (2008)، و”المعتوه» (2014) وغيرها.
وله في النثر العديد من الكتب أيضا مثل «اليقين الملتبس» (1985)، و”خيمياء متجر السلع الرخيصة» (1992)، و”مصنع الأيتام» (1997)، و”الميتافيزيقي في الظلام» (2003)، و”حياة في الصور» (2014).
وله في الترجمة أكثر من 14 عملا، منها «حدائق النار» لإيفان لاليتش (1970)، و”الصندوق الصغير» لفاسكو بوبا (1970)، و”صحوة من أجل الأحياء» لرادميلا لازيتش (2003).
وقد اختارته مكتبة الكونغرس في العام 2007 ليكون «شاعر أميركا الرسمي» الخامس عشر. كما حصل في العام نفسه على جائزة والاس ستيفنز «لبراعته الفريدة والمتحققة في فن الشعر». وكان يعمل أستاذا متقاعدا للأدب الأميركي والكتابة الإبداعية في جامعة نيوهامشاير، حيث كان يقيم.
لم يتوقف تأثير الشاعر عند قصائده أو مؤلفاته بل له آراء أدبية وفكرية وسياسية لافتة، نتبين بعضا منها في حوار سابق أجراه معه الشاعر والمترجم الفلسطيني تحسين الخطيب لمجلة “الجديد” الثقافية اللندنية، إذ بيّن سيميك أنه ضد العنصرية والشعبوية، وخاصة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إذ قال “حين صوّت نحو ستين مليونا من الأميركيين لأوباما في الانتخابات الأخيرة، فإننا كنا نتحدث عن مجتمع ما بعد عنصري، ولكننا ندرك اليوم مع تنامي شعبية ترامب، بأننا كنا نخدع أنفسنا”.
وفي رده حول سؤال “الجديد”: ما هو الأدب العظيم؟ قال الشاعر “الروايات، والقصص القصيرة، والقصائد والمسرحيات التي تصمد وتبقى بسبب الصنعة الماهرة التي كتبت بها وجدة رؤيتها حول مأزقنا الإنساني. بعبارة أخرى، ما يجعل تلك الأعمال عظيمة هو ما تنطوي عليه فحسب. عن الكيفية التي دارت فيها الكتابة حول شيء ما. فإن قاومت امتحان الزمن ضمن ثقافة معينة وأصبحت تقرأ على نطاق كوني، كحكايات ألف ليلة وليلة، فإننا نطلق عليها اسم كلاسيكيات. إنني أمقت التعميمات الخيالية الوهمية، بيد أن ذلك ما خطر ببالي حين استخدمت تلك العبارة في الحديث عن ديلان”.
المتشائم المرح
وحول ما دفعه ليقرّر أن يصبح شاعرا قال سيميك “لم أقرر البتة؛ لقد حدث الأمر فحسب. رغبت في أن أكون رساما مذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى بلغت الثلاثين، بيد أنني كنت أتسكع في تلك الأوقات مع شعراء ورسامين وأكتب بعض القصائد على هامش ذلك كله، وصادف أن نشرت بعضا منها في مجلات أدبية إلى أن اقترح عليّ أحد محرري تلك المجلات أن أجمع تلك القصائد في كتاب. كنت في التاسعة والعشرين وأعمل في مجلة متخصصة في التصوير الفوتوغرافي في مدينة نيويورك، متزوجا، وسعيدا، ولا خطط للمستقبل لديّ، سوى أن أفعل ما كنت قد بدأت في فعله، العمل بين خمس إلى تسع ساعات من أجل لقمة العيش، وأكتب قصائد في آخر الليل. وها أنا ذا، بعد خمسين سنة، لا أزال أعمل في هذا العمر الذي وصلت إليه، وأكتب في وقت فراغي”.
وعن الطقوس التي يمارسها في الكتابة، إذ ذاع عنه أنه يكتب في السرير، أجاب الشاعر “لا طقوس لديّ البتة. أنزع حاليا إلى الكتابة في الصباح، فيما اعتدت الكتابةَ في شبابي آناء الليل، ولكن ليس في مكان معين. فقد أكتب وأنا جالس في كرسي أو على مكتبي، وفي السرير لأنني في غاية الكسل كي أنهض، أو في المطبخ وزوجتي تعد العشاء. أكتب في كراريس صغيرة بقلم حبر جاف أو بقلم رصاص، لذا فإنني أكتب في أيّ مكان. بيد أنني حين أكتب النثر، فإنني أجلس إلى حاسوبي وأطبع”.
يلقب البعض سيميك بـ«المتشائم المرح»، وهو وصف كان يوافقه، بل يأمل أن يحتفظ به حتى النهاية، مثلما فعل والده. الذي كان يطلق النكات وهو على سرير موته.
الروايات والقصص والقصائد والمسرحيات تصمد بسبب الصنعة الماهرة التي كتبت بها وجدة رؤيتها لمأزقنا الإنساني
ودائما ما يحتفى به بوصفه “سيد العبثي والمباغت”، لكن الشاعر وضّح أنه لا يتدبر قصائده عن سبق إصرار وترصد. إنها مزيج حدس وروية وتبصر، ولكن ليس بطريقة نظامية.
وأضاف “الحقيقة أنْ لا ذاكرة لديّ عن الكيفية التي كتبت فيها معظم قصائدي لأنها متوالية من أفعال فطرية/بديهية تعتمد على كل ما كنت أفكر فيه، وأشعر به، أو أتخيله في تلك اللحظة التي كنت أكتب فيها. إنني أحب شيللي ومقالته تلك، بيد أنه يتوجب ألا نعتقد بأنه كان يشتغل على قصائده بالطريقة التي قال إنه قد فعل. لا يمكن، من وجهة نظري، الفصل بين الإلهام والصنعة”.
العزلة موجودة بقوة في قصائد سيميك التي تمتاز استعاراتها في تحولاتها بأنها تتشكل طريقا منيرا تأخذنا في رحلة «جوانية»، وقال “أشعر بالسعادة لسماع ذلك. إن لم تكن الأفكار، كما قال ويتمن، أفكار كل البشر في العصور جميعها، وإن لم تكن أفكارك بقدر ما هي أفكاري، فإنها لا شيء. أما بالنسبة إلى العزلة، دعني أقتبس من الذاكرة شيئا من شاعر آخر، الشاعر الإيطالي سلفاتوري كوزيمودو، الذي لديه قصيدة قصيرة تقول ‘كل امرئ وحيد على وجه الأرض، يحيط به شعاع من نور الشمس، ثم فجأة يعم المساء‘. لقد قرأت ذلك لأول مرة حين كنت في أوائل العشرين من عمري، هابطا في نيويورك وصاعدا منها، فأدركت على التو بأن هذه الرؤية هي التي أؤمن بها أيضا”.
أما عن رأيه في السجال المحتدم بشأن طبيعة الشعر والنثر، والحدود التي تفصل بين النوعين، فقد قال سيميك “إن شعر النثر هو الطفل الوحش لنزعتين متناقضتين؛ الأولى ترغب في قَص حكاية، فيما ترغب الأخرى، وبقوة متكافئة، أن تجمّد اللغة قليلا، من أجل أن نتأمل ونمعن النظر. تتدفق الجمل، في النثر، وراء بعضها حتى تقول ما يتوجب عليها قوله. بيد أن الشعر، في الجهة الأخرى، يعض ذيله. وفي اللحظة التي نصل فيها إلى نهاية القصيدة، تعترينا رغبة في الرجوع إلى البداية وإعادة قراءة القصيدة، مرتابين بوجود شيء أكثر مما تراه عيوننا. تبدو قصائد النثر كالنثر، ولكنها تقرأ، وتحيل أنفسها إلى الذاكرة، بالطريقة التي يقرأ فيها الشعر. فإن فعلت ذلك، فإنني أعتقد، حينئذ، بأننا نستطيع أن نسميها قطعة كتابية جيدة”.