قصة شعب أنهكه الاحتلال وسلطة العثرة

ليست المسألة أن الفلسطينيين يدفعون الثمن. دفعُ الثمن جار ولكنهم يدفعونه من أجل لا شيء ويدفعونه كمجرد امتثال للعلاقة بين احتلال شرس وشعب لا يريد التسليم بالهزيمة.
الثلاثاء 2023/01/10
الهزيمة خيار يتناقض مع الطبيعة الفلسطينية

الإسرائيليون لم يوقفوا “انتفاضتهم” ضد الفلسطينيين منذ العام 2000، الذي شهد “الانتفاضة الفلسطينية الثانية”. أعمال القتل اليومي والملاحقات وهدم المنازل وضم الأراضي لم تنقطع منذ ذلك اليوم. وحيث أن السلطة الفلسطينية انتقلت بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات إلى يد “كرزاي فلسطين”، فقد كُتب للانتفاضة الإسرائيلية أن تتواصل، بينما واصل الرئيس محمود عباس سياسة التوسلات، أملا بأن يحظى ببعض عطاء من إسرائيل. فلم يحصل على شيء.

كانت خياراته غبية. هذا ما أثبته الواقع على امتداد سنوات سلطته. فلا هو حقق في المفاوضات ما كان يزعم أنه يتطلع إليه. ولا توقف الإسرائيليون عن المضي قدما في برنامجهم الاستيطاني. وظل الفلسطينيون يدفعون الثمن، بالتقسيط والمفرق يوميا.

الانتفاضة “الثالثة” لم تحدث عندما اقتحم إيتمار بن غفير المسجد الأقصى، بصفته وزيرا للأمن في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة. من ناحية، لأن بن غفير احتال لكي يمرر الاقتحام. ومن ناحية أخرى، لأن الفلسطينيين أُنهكوا بالأعمال الوحشية التي تمارسها إسرائيل. بينما ظل الرئيس عباس يطبخ الحصى. لا يملك هذا الرجل شيئا آخر ليطبخه. الأحداث تمضي على هواها، من دون أن يكون له ضلع فيها. هو نفسه من دون أضلاع. سياساته حولته، وحولت سلطته إلى كائن هلامي، رخو، وبلا دماغ.

◙ الفلسطينيون لا يملكون إلا أحد خيارين إما أن يواصلوا النزيف وإما القبول بالهزيمة ولو تركت الأمر لإسرائيل فإنها سوف تختار الأول لأنها تنظر إلى الفلسطينيين كشعب لا يستحق الحياة

ليست المسألة هي أن الفلسطينيين يدفعون الثمن. المسألة هي كيف يدفعونه، ومن أجل ماذا.

دفعُ الثمنِ جارٍ أصلا. ولكنهم يدفعونه من أجل لا شيء. يدفعونه كمجرد امتثال للعلاقة الطبيعية بين احتلال شرس، وشعب لا يريد التسليم بالهزيمة.

المفارقة الأشد وحشية هي أن القبول بالهزيمة نفسه ليس كافيا لإسرائيل. لأنها لا تملك جوابا على عواقبه “الديموغرافية” المجردة. وقد يبدو أن نزعة المقاومة الطبيعية هي التي تحول دون إحلال الاستسلام (بدلا من إحلال السلام)، إلا أن الحقيقة ليست كذلك. الاستسلام غير قابل للتحقيق لأن هناك سلطة فلسطينية، لا تقود شعبها من أجل التحرير، ولا تجرؤ على إعلان الهزيمة. إنها تقف في الوسط مثل حجر عثرة أمام مسارات النهاية، رغم أنها تمهد للاحتلال النهايات التي تلائم إستراتيجيته.

لقد قاد نتنياهو معظم الفترة بين “الانتفاضة الثانية” والآن. وهو يعرف الواقع غير الخفي الذي تعيشه السلطة الفلسطينية بوصفها سلطة أوهام من ناحية، وبوصفها سلطة جبانة بالمطلق، من ناحية أخرى، وأنها بلا مشروع يعرف ماذا يفعل، من ناحية ثالثة، الأمر الذي ظل يؤهله إلى أن يمارس أعماله التوسعية، ويُنهك الفلسطينيين بأعمال القتل والاعتقالات اليومية، ويسخر من سلطة الرئيس عباس، إلى درجة مهينة بالفعل.

لا يعني ذلك أن انفجارا آخر لن يقع. “كوكتيل التفجير” جاهز في الواقع. سوى أن الفلسطينيين لا يعرفون على وجه الدقة ما هو المسار الذي سيأخذه التفجير. لا يعرفون ما إذا سيكون له مسار أصلا. وجود سلطة الرئيس عباس، ومنظمته التي فصلها على مقاس حذائه، لا تقترح شيئا ذا قيمة عملية. وإذا فعلت فإنها تقدمه كمقترح خطابي فحسب. يخرج الرجل ببيان وتنتهي المسألة.

لو أمكن، بأي صورة من الصور، شطب قابلية هذه السلطة على إصدار البيانات، فماذا ستكون؟

هل تستطيع أن تتخيلها؟ حتى الكائنات الهلامية سوف تبدو أكثر فائدة منها. لأنها مع فرض الصمت عليها، لن تعرف ماذا تفعل. في ذلك ما يؤكد أنها سلطة هراء شعاراتي فحسب. ولكنه هراء باهظ الكلفة. الرئيس عباس لم يمارس شيئا غيره على امتداد 16 عاما متواصلة من رئاسته. وبينما تقوم إسرائيل بقتل فلسطيني واحد كل يوم (أو أكثر أحيانا)، فإنك تتحدث في الواقع عن أكثر من 5800 قتيل، وأكثر منهم من المعتقلين والجرحى.

◙ كل ما لدى الفلسطينيين الآن هو الدوران في الفراغ. لا يوجد اتجاه. الكل يعرف ماذا يريد، ولكن لا يعرف ما هو الطريق إليه

لم تقدم الانتفاضتان الفلسطينيتان، كلتاهما معا، هذا العدد من الضحايا، رغم أنهما تواصلتا لنحو عشر سنوات، قبل أن يطفئها الرئيس عباس بنفسه.

لا يملك الفلسطينيون الآن إلا أحد خيارين لا ثالث لهما فعلا: إما أن يواصلوا النزيف بلا طائل. وإما القبول بالهزيمة.

ولو تركت الأمر لإسرائيل، فإنها سوف تختار الأول، لأنه يتوافق تماما مع مناهج العنف والتطرف التي تنظر إلى الفلسطينيين كشعب لا يستحق الحياة ويمكن اقتلاعه بالتدريج. ولأنه يمنحها الفرصة لكي تصفي حسابات التهديد الديموغرافي بالتدريج أيضا.

الهزيمة خيار يتناقض مع الطبيعة الفلسطينية، والإنسانية أيضا. إلا أنها حل، إذا عزت الحلول الأخرى.

ولكن ما هي الحلول الأخرى؟

انتفاضة بمسارٍ يعرف النهايات، ولا يحيد عنها مهما كلف الثمن. شيء يشبه تدمير الواقع الذي بنته سلطة الرئيس عباس فوق رأسها. هذا هو الحل الذي لا يوجد حل سواه.

الفلسطينيون شعب صبور. ولكنه يغلي. يتفجر من حين إلى آخر، عندما يبلغ السيل الزبى بأفراد لم يعودوا قادرين على المزيد من التحمل.

هذا الشعب لا يريد، فوق ما ابتلي به، أن يخوض في حرب أهلية، لو أن أحدا قام بتفجير مقر الرئاسة الفلسطينية على رأس الرئيس عباس، أو قام باغتياله، لكي يُزيل حجر العثرة. لماذا؟ لأن الخيارات التالية ليست واضحة أيضا.

◙ نتنياهو قاد معظم الفترة بين "الانتفاضة الثانية" والآن. وهو يعرف الواقع غير الخفي الذي تعيشه السلطة الفلسطينية

ليس الانقسام الفلسطيني هو العقدة. الفلسطينيون ليسوا منقسمين حيال الاحتلال؛ ليسوا منقسمين حيال حقوقهم الوطنية، كما أنهم ليسوا منقسمين حيال الاستعداد لقبول الانفجار إلى ما لا نهاية. إنهم منقسمون على “ما بعد الانفجار”؛ منقسمون على مساراته، ومنقسمون بين منظمات تركت القضية وعكفت على الاتجار بها. البعض يبيعها لهذا، والبعض الآخر يبيعها لذاك.

لا تحتاج أن تهدم مقر الرئيس عباس على رأسه وحده. تحتاج أيضا أن تهدمه على رؤوس الآخرين. كلهم. إلا من قرر أن يستسلم لإرادة شعبه صامتا. أي من دون أن يقوم بإصدار بيانات إضافية، فيكتفي بالعمل.

كل ما لدى الفلسطينيين الآن هو الدوران في الفراغ. لا يوجد اتجاه. الكل يعرف ماذا يريد، ولكن لا يعرف ما هو الطريق إليه. أما الإسرائيليون، فإنهم يزدادون تطرفا، لأن إستراتيجية الإنهاك ناجحة، ولأن “انتفاضتهم” التي رافقت كبح “الانتفاضة الثانية”، لم تتوقف ولا ليوم واحد، منذ اثنين وعشرين عاما.

تخيل لو أن العكس هو الذي حصل!

وها نحن هنا. ففي الفوضى الراهنة، بين قتيل وآخر، واعتقالات لا تتوقف، واستيطان يتوسع، واقتحامات تتكرر، فمما لا شك فيه أن سلطة الرئيس عباس، وجماعات أخرى، سوف تصدر بيانا للتنديد. وتنتهي القصة.

شكرا لهذه القصة الرعناء. شكرا لهذه القصة الفاضحة. إنها قصة دم مجاني، يُسفك كل يوم، لكي ينتج شعبا مُنهكا، لا يعرف الطريق إلى الهزيمة، ولا يعرف الطريق إلى الحرية.

8