صالح والمشري.. وفرصة الوقت الضائع

لا أحد يستطيع التكهن بما سيكون عليه الوضع في ليبيا بعد إعلان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري التوصل إلى اتفاق على خارطة طريق جديدة للخروج بالبلاد من النفق الذي انحدرت إليه منذ 12 عاما، خصوصا وأن للرجلين والمجلسين تاريخا من الفشل في تنفيذ التعهدات واحترام الوعود، لكن الأمر قد يكون مختلفا هذه المرة، وذلك لاعتبارات عدة، من بينها أن هناك قاعدة أوسع من الإسناد الإقليمي يمكن الاستفادة منها في تحديد التوازنات بشكل يرضي الفاعلين الأساسيين داخليا وخارجيا.
قبل اجتماع القاهرة، كان صالح قد زار أنقرة وأجرى عددا من اللقاءات مع مسؤولين أتراك أبدوا مساندتهم لأي اتفاق قد يحصل بين مجلسي النواب والدولة، وهذه ليست المرة الأولى التي يطرق فيها صالح أبواب تركيا، وإنما هي حلقة من سلسلة المشاورات التي عرفت أوجها في أغسطس الماضي عندما استقبله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي تدعمت بانفتاح الأتراك على قيادة الجيش في بنغازي، ثم دخلت قطر على خط التقارب مع مجلس النواب، حيث دعي رئيسه إلى الدوحة في سبتمبر الماضي، وجرى استقباله من قبل أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وكان لافتا أن صالح كان في أغلب تلك التحركات مرفقا بصدام حفتر، ابن قائد الجيش الوطني الجنرال خليفة حفتر، وهو ما يعني أن أنقرة والدوحة تحاولان التعامل مع الواقع كما هو، وغادرتا منطقة التنافس على تقاسم الغنيمة مع مصر إلى مجال البحث عن توافقات معها حول آفاق حل الأزمة الليبية.
الأغلبية الساحقة من الشعب الليبي ترى في اتفاق مجلسي النواب والدولة بالقاهرة فرصة الوقت الضائع التي قد لا تتكرر
ذهاب صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري إلى القاهرة أكد أهمية الدور المصري ليس فقط في احتضان الحوار بين الليبيين، وإنما في اقتراح مبادرات بعد تمحيصها مع فاعلين إقليميين ودوليين، وقد أثبتت القيادة المصرية أنها مستعدة للحوار مع مختلف الفرقاء الليبيين بمن في ذلك رموز الإسلام السياسي، ومن بينهم المشري الذي يعتبر من أهم قيادات حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان في ليبيا، والذي كانت له مواقف عدوانية متشنجة من مصر، لكن الوضع اختلف تماما بعد المصالحة الخليجية، وبعد دخول تركيا على خط التوافق مع خصومها الإقليميين السابقين كالسعودية والإمارات وسعيها لفتح باب التطبيع مع القاهرة.
خلال الأشهر الماضية، نأى المشري بنفسه عن تيار رجل الدين المتشدد الصادق الغرياني المعروف بمعاداته لمصر وتحريضه الدائم ضد نظامها السياسي، في حين برز عبدالحميد الدبيبة كحاضن وداعم لذلك التيار، وكذلك كباحث عن فرص للهجوم على القاهرة بعد أن وضعته في قائمة الشخصيات غير الموثوق بها لاسيما بعد إقدامه في إجراء غير مسبوق على تسريب حوار جرى بينه وبين رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في سبتمبر 2021، وكذلك بعد أن تأكد للمصريين أن الدبيبة مستعد للتآمر على بلادهم وخاصة عندما يتعلق الأمر برغبته الدائمة في نيل رضاء الأتراك والجزائريين والجماعات الدينية المتشددة.
في منتصف ديسمبر الماضي أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قرارا جمهوريا بترسيم الحدود البحرية الغربية في البحر المتوسط، ونصت المادة الأولى من القرار على أن تبدأ حدود البحر الإقليمي لمصر من نقطة الحدود البرية المصرية – الليبية النقطة رقم (1) ولمسافة 12 ميلا بحريا وصولًا إلى النقطة رقم (8)، ومن ثم ينطلق خط الحدود البحرية الغربية لمصر من النقطة رقم (8) في اتجاه الشمال موازيًا لخط الزوال (25) شرقا وصولًا إلى النقطة رقم (9)، وقد كان واضحا أن القيادة المصرية أرادت أن توجه رسالة إلى سلطات طرابلس تؤكد من خلالها قدرتها على فرض الأمر الواقع كما فعلت حكومة الدبيبة عندما اتجهت في أكتوبر الماضي للتوقيع على الاتفاقيات التي كان المجلس الرئاسي السابق برئاسة فائز السراج أبرمها مع تركيا في ديسمبر 2020، والتي رفضتها دول المنطقة.
ذهاب صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري إلى القاهرة أكد أهمية الدور المصري ليس فقط في احتضان الحوار بين الليبيين، وإنما في اقتراح مبادرات
كما أن القيادة المصرية، لم تعد تعترف بحكومة الوحدة المنتهية ولايتها، ولا تراها جديرة بالدخول معها في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية، وتنظر إلى الدبيبة كحالة مراهقة سياسية من الصعب التعامل معها في القضايا الجدية، وقد تم تبليغ هذا الأمر في مناسبات عدة لسلطات طرابلس، وهو ما جعل الدبيبة يتجه لعقد صفقات مجزية مع جهات أخرى سواء إقليمية أو دولية لضمان الاستمرار في الحكم في تحدّ للقاهرة ولمجلسي النواب والدولة ولكل القوى الوطنية الداعية إلى تطبيق بنود الاتفاق السياسي كما تم إقرارها من قبل ملتقى الحوار السياسي.
حاول الدبيبة الاستقواء على مجلسي النواب والدولة بتبعيته المفضوحة لواشنطن ولندن وباريس، وبعلاقاته مع تركيا والجزائر، وبسياساته الشعبوية بالداخل، ووجه اتهاماته لعقيلة صالح وخالد المشري منها عرقلة الانتخابات والعمل على تقاسم السلطة لإدامة النزاع، وهي اتهامات غير بعيدة عن الواقع، وكما تنطبق على رئيسي المجلسين، فإنها تنطبق عليه وعلى حكومته، وبالتالي فإن الصراع الحقيقي هو ذلك المتعلق بالسلطة وبالتنافس على المصالح والامتيازات.
أطاح اتفاق القاهرة بين صالح والمشري بمبادرة المجلس الرئاسي الذي كان دعا قبل أيام إلى اجتماع ثلاثي مع رئيسي مجلسي النواب والدولة يعقد يوم الحادي عشر من يناير الجاري بمدينة غدامس الواقعة في المثلث الحدودي مع تونس والجزائر، وأعطى إشارة سلبية عن المجلس قبيل أيام من افتتاح الاجتماع التمهيدي لمؤتمر المصالحة الوطنية بالعاصمة طرابلس يوم الثامن من يناير، كما كشف مرة أخرى عن طبيعة المشهد السياسي في البلاد، وعن عجز محمد يونس المنفي ونائبيه عن إنجاز عمل حقيقي في سياق دوره في الحكم، ورمى تهديدات واشنطن ولندن وبرلين بإيجاد آلية بديلة للقاعدة الدستورية في سلة المهملات.
اتفاق القاهرة عصف بتطلعات الدبيبة للضغط على المجلس الرئاسي مباشرة أو عبر وسطاء، من أجل استبعاد دور مجلسي النواب والدولة من تحديد معالم الحل السياسي، وأفشل رهانه على بعض الأطراف السياسية والبرلمانية التي كانت تأتمر بأوامره، وأثبت أن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يحتكر خيوط اللعبة في البلاد. كذلك، فإن البعثة الأممية وجدت نفسها في وضعية التسلل، حيث يبدو أنها فوجئت بتوصل صالح والمشري إلى الاتفاق في القاهرة بعد أن كانت تدعم مباشرة المجلس الرئاسي للاجتماع في غدامس وهو ما يمكن استنتاجه من بيانه الصادر بعد الاتفاق، وقد أكد رئيسا مجلسي النواب والدولة أنهما سيضعانه في الصورة بإعطائه تفاصيل عن خطتهما للمرحلة القادمة.
قد يستمر الوضع على ما هو عليه، لاسيما أن النخب الليبية الفاعلة في المشهد السياسي باتت تجيد كل أساليب العبث واللعب مع المجتمع الدولي
يمكن القول إن صالح والمشري نفذا من خلال اتفاق القاهرة هجوما معاكسا ضد المجلس الرئاسي وحكومة الأمر الواقع في طرابلس، والبعثة الأممية والعواصم الغربية التي كانت تطرح سواء بالتصريح أو التلميح خطة لتجاهل مجلسي النواب والدولة وإخراجهما من سياق الشرعية التي يمثلانها، وتم التمهيد لذلك بحملة انتقادات واسعة للمجلسين، وبالتشكيك في نوايا رئيسيهما واعتبارهما السبب الرئيسي في كل العراقيل التي أدت إلى إفشال مشاريع الحل واستبعاد موعد الانتخابات إلى أجل غير مسمى.
خلال الأيام القادمة سيمضي صالح والمشري في مشروع تشكيل حكومة جامعة لليبيين بدلا من الحكومتين المتنافستين على السلطة حاليا، وسيرفض الدبيبة الاعتراف بها، وسيعملان على التوصل إلى وثيقة دستورية مصغرة تمهد الطريق أمام المسار الانتخابي، وسيربطان هذه الخطوة بالاعتراف الدولي بالحكومة التي سيسعيان لتكريسها كخيار أساسي للخروج من النفق، وسيجدان هذه المرة دعما مهما من أطراف عدة، من بينها تركيا التي بدأت تنظر إلى الدبيبة على أنه ورقة خاسرة نتيجة أخطائه المتعددة، وآخرها تسليمه لضابط الأمن الخارجي السابق أبوعجيلة مسعود المريمي إلى واشنطن، وهو الحدث الذي أثار حالة احتقان شعبي في كافة أرجاء البلاد.
قد يستمر الوضع على ما هو عليه، لاسيما أن النخب الليبية الفاعلة في المشهد السياسي باتت تجيد كل أساليب العبث واللعب مع المجتمع الدولي، وما يقوم به مجلسا النواب والدولة يؤكد أن المسألة تتعلق بمنطق العناد والتحدّي السائد لدى أغلب الفاعلين السياسيين، وبثقافة الضحك على الذقون التي أثبتت فائدتها في عرقلة مشاريع الحل، بما يخدم مصالح أصحاب النفوذ الراغبين في البقاء في الحكم إلى أجل غير مسمى، حتى أن ليبيا لم تفلح في الخروج من هذه الدائرة المغلقة ليس منذ سنوات فقط وإنما منذ عقود.
الأغلبية الساحقة من الشعب الليبي ترى في اتفاق مجلسي النواب والدولة بالقاهرة فرصة الوقت الضائع التي قد لا تتكرر، وهي مع ذلك سانحة للتوصل إلى آلية حقيقية ومنطقية وعملية لترتيب أوراق المرحلة القادمة، ولقطع الطريق أمام المشروع الاستبدادي الذي يتزعمه الدبيبة وأمام الضغوط الخارجية التي تنبني على مصالح الواقفين وراءها، ولا تعترف بخصوصية الوضع الداخلي للبلاد سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وقد تكون أفضل مبادرة يقدم عليها عقيلة صالح وخالد المشري خلال الأيام القادمة هي جمع أعضاء المجلسين في مجمع قاعات واغادوغو بسرت بحضور ممثلي الفعاليات الاجتماعية والسياسية عن كامل مناطق البلاد، للخروج بخارطة طريق نهائية تضع القوى الداخلية والخارجية أمام الأمر الوقع، لاسيما بعد طرحها للاستفتاء الشعبي عليها بما يمنحها شرعية استثنائية قادرة على الانتصار لقيمة ومفهوم الدولة وإعادة الوطن إلى مواطنيه.