الزيتونة أكثر من مجرد شجرة عادية في تونس.. إنها ثقافة وتراث

شجرة الزيتون ليست مجرد شجرة عادية في شتى أنحاء المتوسط، ولكنها في تونس تحوز على قداسة من نوع خاص، قداسة منحها إياها التاريخ العريق الذي أدخلها إلى عمق الهوية التونسية وحولها إلى تراث ثقافي متكامل، ومن ثم القداسة الدينية التي وهبتها لها الأديان السماوية وحتى ما قبل السماوية، علاوة على دورها الاجتماعي الكبير في العائلات التونسية، ما جعلها تستحق الاحتفاء بها فنيا وثقافيا وحضاريا.
تونس - لقد أفرزت “الحضارة الفلاحية” بالبلاد التونسية، والتي انبتت عن العديد من الزراعات كالحبوب والغراسات مثل الكروم والنخيل والزياتين، عدة عناصر في شكل منتوجات فلاحية كالقمح والشعير والقوارص وزيت الزيتون، حتى ارتبط البعض منها ارتباطا وثيقا بالشخصية التونسية والهوية الوطنية، وخير مثال على ذلك شجرة الزيتون التي تلاءمت مع مناخها المتوسطي المعتدل في الشمال وشبه الصحراوي والجاف في الجنوب.
مهرجان الزيتونة
إضافة إلى هذه العوامل اكتسبت شجرة الزيتون مكانة تاريخية هامة ودخلت إلى عمق مكونات الهوية التونسية والثقافة الشعبية وحتى الفنون والآداب، كما لها قداسة دينية في مختلف الأديان ما قبل التوحيد وحتى الأديان التوحيدية من المسيحية واليهودية والإسلام في تونس، واحتفاء بهذه الشجرة وما يتعلق بها يأتي المهرجان الدولي للزيتونة بالقلعة الكبرى وسط شرق تونس.
المهرجان يقدم مجموعة من السهرات الموسيقية وعرضا مسرحيا "حسين في بيكين" ومجموعة من العروض للأطفال
تتميز الدورة الحادية والأربعون من المهرجان الدولي للزيتونة بالقلعة الكبرى، التي تنتظم خلال الفترة من الرابع والعشرين إلى الثلاثين من ديسمبر الجاري، بتنوع الفقرات وتلازم البعدين الاقتصادي والثقافي في الأركان القارة للمهرجان.
وأفادت مديرة المهرجان وفاء دعاسة خلال ندوة صحفية انتظمت مؤخرا بالقلعة الكبرى بأن افتتاح المهرجان سيكون يوم السبت الرابع والعشرين من ديسمبر بتنظيم كرنفال “قلعة الثقافة والسلام” الذي يتضمن مجموعة من العروض الفنية والعربات المجرورة وعروض الدمى العملاقة واللوحات الراقصة في شوارع مدينة القلعة الكبرى.
وتتضمن الدورة الجديدة وفق ما صرح به المنظمون مجموعة من السهرات الموسيقية التي يحييها بالخصوص الفنانون ميسون فطناسي وآمنة فاخر وحسان الدوس وفنان الراب راد ستار، إلى جانب عرض مسرحية “حسين في بيكين” لمقداد السهيلي كما تتضمن الدورة مجموعة من العروض الفنية الموجهة إلى الأطفال.
وتوازيا مع السهرات الفنية قالت مديرة المهرجان إن الدورة الحالية تحافظ على الفقرات القارة وأهمها الندوة العلمية الفلاحية التي ستكون تحت عنوان “انحباس الأمطار وتأثير التغيرات المناخية على شجرة الزيتون” تتخللها نقاشات ومقترحات حول الممارسات الفضلى للتخفيف من آثار الجفاف والتقنيات الزراعية لمجابهة التقلبات المناخية.
كما تنعقد في إطار المهرجان ندوة فكرية حول “طفل التوحد وسبل إدماجه في المؤسسة التربوية”، تتخللها نقاشات ومقترحات لمعالجة اضطرابات التوحد لدى الأطفال، ويكون متابعو المهرجان على موعد مع اليوم السياحي الذي يعد إحدى أبرز الفقرات، والذي يكشف عن عمق المخزون الثقافي والتراثي للجهة وتتخلله جملة من الورشات في رحي الزيتون وصناعة الخبز و”الرقاق” وإعداد المأكولات القلعية وعرض المنتوجات والصناعات التقليدية للحرفيين وسيتم بالمناسبة تشريك عدد من السياح المقيمين بالجهة في فعاليات هذا اليوم السياحي.
أكثر من شجرة

شجرة الزيتون عنصر أساسي في المخيال التونسي وفي تكوين الأفراد وهويتهم، ولهذه الشجرة في منطقة القلعة الكبرى الساحلية مكانة أكثر خصوصية، وكتبت حول ذلك الصحافية التونسية فاطمة الأحمر أن “معظم العائلات في الساحل، شرق تونس، توارثت غابات الزيتون عن أجدادها، وأغلبها تخصص أياما طويلة لجني ‘عولتها‘ (المؤونة) من الزيتون في جو احتفالي بهيج يحضره الكبار والصغار”.
وتضيف في تبيان طقوس جني الزيتون “فور الوصول إلى البستان، ترى الأم منهمكة في إعداد الشاي الأحمر الثقيل، مصدر طاقة الجميع طوال يوم كامل، وينطلق الرجال في بسط المفروشات ذات اللون الأخضر تحت أشجار الزيتون ونصب السلالم وتوزيع ‘الأمشاط‘ بينهم ثم ينطلقون في جني الزيتون. أما النسوة المسنات فيفترشن الأرض وأمامهن أكداس من الزيتون لتنقيتها من الأوراق وتصفية الحبات وفصلها عن الأتربة العالقة بها بواسطة ‘غربال‘ ثم يضعنها في أكياس يقع تجميعها وآخر اليوم تنقل إلى المعاصر لرحيها واستخراج الزيت”.
شجرة الزيتون اكتسبت مكانة تاريخية هامة ودخلت إلى عمق مكونات الهوية التونسية والثقافة الشعبية وحتى الفنون والآداب
وتمضي العائلات أياما طويلة في جني الزيتون في جو احتفالي قبل استخراج الزيت وتقاسمه بين أفراد العائلة وبيع الفائض منه، إذ يمثل موسم الجني فرصة اجتماعية مهمة لتجمع العائلات كبارا وصغارا، كما يمثل توارثا لعادات قديمة حيكت حول هذه الشجرة التي يتجاوز عمرها وجود القرطاجيين في تونس قبل ألفين وخمس مئة عام.
وقال خالد زروق صاحب دراسة بعنوان “مسيرة الزيتون في الأرض” إن أكبر شجرة زيتون في تونس يبلغ عمرها 2500 عام وهي موجودة في منطقة دار علوش في محافظة (ولاية) نابل شمال شرق تونس ويطلق عليها اسم “جابوز”، ولكن تاريخ الزيتون أقدم من ذلك في تونس.
وكانت وما زالت شجرة الزيتون بالبلاد التونسية تنفرد بصيت كبير ولامع في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمجالات انتشارها وذلك لطابع الكثافة وكذلك حسن العناية والمتابعة مما أكسب هذه الجهات “ثقافة التعامل مع شجرة الزيتون”، فأضحت بعض الخصوصية المحلية لهذه الجهة عن الأخرى ومجالها موسومة بالزيت والزيتون.
إن سعي الجماعات المحلية والأفراد في المحافظة على الزيتونة هو في الحقيقة سعي للحفاظ على مكون هام من مكونات شخصيتهم وتعبير غير مباشر لما قدمته هذه الشجرة التي ساهمت في تأصلهم في هذه المناطق وكانت من أهم العناصر التي ساعدتهم على الاستقرار إضافة إلى أنها مظهر مميز من مظاهر النعمة والثراء.
وفي هذا الإطار فإن المهرجان الدولي للزيتونة بالقلعة الكبرى يساهم في الدعوة إلى الاستثمار في هذا الإرث الثقافي العريق المرتبط بالزيت والزيتونة، الشجرة التي تعتبر رصيدا ثقافيا تنمويا.