زيارة وزير داخلية فرنسا تمهد لتنازل جزائري في الموقف من "الحركي"

الجزائر - قام وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر بجولة خاصة رفقة زوجته في مسقط رأس جده موسى (حركي)، ببلدة أولاد غالية في محافظة تيسمسيلت، بالجنوب الغربي للبلاد، في رسالة لا تخلو من دلالة على تواصل الأجيال مهما باعدت بينهم الجغرافيا والخلافات السياسية.
وظلّت قضية الحركيين (الجزائريين الذين عملوا ضمن الإدارة الفرنسية زمن الاستعمار) محل تجاذب بين الجزائر وباريس منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962.
وألمحت جولة الوزير الفرنسي في مسقط رأس جده إلى فرضية تنازل الجزائر عن قضية “الحركي” و”الأقدام السوداء”، بعدما ظلت الفئتان مرفوضتين لديها لأسباب تاريخية تتعلق بدورهما في قمع ثورة التحرير، وما يروج عن استغلال ثروات الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية.
وتوجه الرئيسان الجزائري عبدالمجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون، منذ الصيف الماضي، إلى الإقرار بأهمية تسوية الخلافات المترتبة على ملف التاريخ والذاكرة المشتركة بعيدا عن الملفات الثنائية الأخرى، بغية إبعاد تأثيراتها وارتداداتها عن إرادتهما في بعث شراكة إستراتيجية متجددة، بحسب ما أعلنا في الزيارة التي قام بها الرئيس ماكرون في أغسطس الماضي إلى الجزائر.
ويكون وزير الداخلية الفرنسي بهذه الزيارة إلى مسقط رأس جده في عمق الجزائر قد مهد لعهد جديد، يقوم على مراجعة جوهرية لمواقف الجزائر التاريخية والتقليدية تجاه فئتيْ الحركي والأقدام السوداء، اللتين ظلتا تمثلان عنوان الخلاف التاريخي بين الطرفين، ليفسح بذلك المجال أمام تسوية مع أحفاد وأبناء هاتين الفئتين.
تاريخيا موسى، جد وزير الداخلية الفرنسية الحالي، هو جزائري اشتغل ضمن اللفيف الأول الذي شكلته الإدارة الفرنسية لإعانة الجيش الفرنسي على وأد حركات المقاومة الجزائرية
وتاريخيا موسى، جد وزير الداخلية الفرنسية الحالي، هو جزائري اشتغل ضمن اللفيف الأول الذي شكلته الإدارة الفرنسية لإعانة الجيش الفرنسي على وأد حركات المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وبقي هؤلاء مصنفين شعبيا ورسميا ضمن فئتي “الخونة والعملاء” الذين قطعت معهم الجزائر كل شيء.
وظل الملف محل خلاف سياسي بين الجزائر وفرنسا، وألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين طيلة العقود الماضية، رغم مساعي الأجيال الجديدة (الأبناء والأحفاد) لاحتوائه وفق مقاربة ترجح المستقبل على الماضي، وهو ما يكون الوزير جيرالد دارمانان قد دشنه بهذه الزيارة المسموح بها جزائريا، وقد يكون ذلك بداية لعودة هؤلاء إلى التواصل مع مسقط رأس آبائهم وأجدادهم في الجزائر.
والتقى الوزير الفرنسي خلال زيارته إلى الجزائر بعدد من المسؤولين، كما حظي باستقبال من طرف الرئيس تبون، تمت خلاله حلحلة بعض الملفات الخلافية، ومن بينها المتعلقة بالهجرة السرية والتأشيرات، لاسيما بعد إنهاء باريس لأزمة التأشيرات مع الرباط.
وصارت مسألة التأشيرات مثار تجاذب بين باريس والجزائر خلال الفترة الماضية. وجاءت الزيارة بالموازاة مع اتصال جرى بين رئيسي البلدين، ذكر بشأنه بيان للرئاسة الجزائرية أنه “خصص للتشاور ومناقشة التطورات الإقليمية في المنطقة بين تبون وماكرون، خاصة الوضع في ليبيا ومنطقة الساحل”.
وكانت الجزائر قد أعلنت منذ أسابيع عن تشكيل لجنة تتكون من خمسة خبراء ومؤرخين ليشكلوا تركيبة الطرف الجزائري في اللجنة المشتركة، وتعمدت السلطة عدم الكشف عن هويتهم خلال الإعلان عن استقبالهم من طرف الرئيس تبون.
وتلقي ملفات الأرشيف والممتلكات المنهوبة والأفراد المختفين خلال الحقبة الاستعمارية والتفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية والجماجم المتواجدة في متحف الإنسان بباريس، إلى جانب وضعية الأجيال الجديدة من عائلات الحركي والأقدام السوداء وممتلكاتهم في الجزائر، بثقلها في طريق تسوية ملف التاريخ والذاكرة المشتركة بين البلدين.
فئة الحركي هي الجزائريون الذين تعاونوا مع السلطات الاستعمارية من عام 1830 إلى عام 1962
وظلت وضعية هؤلاء تمثل واحدا من الطابوهات التي لا يتم تداولها إلا من زاوية الخيانة والعمالة، بينما يعتبرون أنفسهم ضحايا مغالاة جزائرية في التعاطي مع أفراد لا ذنب لهم في المرحلة المذكورة، فضلا عن أن ممتلكات أهاليهم تم تأميمها من طرف السلطات الجزائرية في السنوات الأولى من الاستقلال.
وفئة الحركي هي الجزائريون الذين تعاونوا مع السلطات الاستعمارية من عام 1830 إلى عام 1962، والذين هاجروا إلى فرنسا عقب استقلال البلاد، ولم يبق منهم إلا عدد قليل، أما وصف الأقدام السوداء فيطلق على المستوطنين الأوروبيين الذين أقاموا أو ولدوا في الجزائر خلال تلك الحقبة.
وبغرض تطبيع العلاقات مع الجزائر تأسست في فرنسا الكثير من الجمعيات التي ترافع لصالح رفع “الفيتو” الرسمي على الفئتين المذكورتين وتمكينهما من ممتلكاتهما، لكن الأمر يحتاج إلى تسوية فوقية، وهو ما يكون قد باشره وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان من خلال الزيارة التي أجراها إلى مسقط رأس جده، ليكون ذلك تمهيدا لاختراق الحواجز النفسية.
وكان دارمانان قد أعلن الصيف الماضي أن أحد أسمائه هو موسى، وهو نفس اسم جده لوالدته الجزائري الذي شارك في صفوف القوات الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية حيث قاتل النازيين في منطقة هاسنون بشمال فرنسا وعاش فيها بعد الحرب إلى غاية وفاته.
وقال دارمانان لصحيفة لوباريزيان الفرنسية معتزا “لأول مرة في تاريخ فرنسا، يوجد وزير للداخلية من أصول جزائرية (…) بالتأكيد هذا ليس لا شيء”. وبُعيد تكليفه بوزارة الداخلية الصيف الماضي غرد دارمانان على موقع تويتر قائلا “شرف كبير بالنسبة إلى حفيد مهاجر مثلي أن يعين وزيرا للداخلية في بلدنا الجميل”.
وتذكر إحصائيات غير رسمية، عن فرار نحو نصف مليون حركي من الجزائر بعد الإعلان عن الاستقلال في صائفة عام 1962، بينما قدر عدد الأقدام السوداء بنحو 800 ألف مستوطن هجروا البلاد بين 1962 و1946، وتركوا خلفهم ممتلكات وعقارات ضخمة كانوا يستغلون فيها الجزائريين، وتم تأميمها لصالح القطاع الحكومي.