مسرح البيكاديللي صرح ثقافي ينتظر إعادة الاعتبار له

أشهر المؤسسات الثقافية العريقة في لبنان لم تصمد في مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية.
الجمعة 2022/12/16
أيقونة ثقافية مهملة

باتت تأثيرات الأزمة الاقتصادية والسياسية المتواصلة في لبنان منذ سنوات جلية على المؤسسات الثقافية التي صنعت مجد البلد الثقافي في ستينات القرن الماضي، لكنها اليوم تشكو الإهمال والخراب وتفتقر إلى النشاط، حتى أن اللبنانيين يطالبون أحيانا بضرورة الإسراع بترميمها وإعادة تشغيلها كرمز ثقافي وفني للبلاد.

بيروت - في ستينات القرن الماضي كان المسرح اللبناني العالمي “البيكاديللي” منارة للفن وعصبا للثقافة أيام الزمن الجميل في بلد أنهكته الحروب والأزمات الاقتصادية.

وما يزال هذا المسرح محفورا في ذاكرة اللبنانيين الذين يأملون في إعادة الاعتبار إلى قيمة وذاكرة ثقافيّة فنيّة اشتُهرت بها بيروت التي لقبها البعض بـ”سيدة العواصم”.

هذا الصرح، الموجود في شارع الحمرا الشهير غربي بيروت، يردده يوميا كل من يقصد ذلك الشارع حيث بات اسم البيكاديللي كبوصلة في شارع الحمرا “أوصلني على البيكاديللي” أو “نلتقي بجانب البيكاديللي”.

صرح ثقافي

بول شاوول: البيكاديللي كان الوجه الأول للحداثة في شارع الحمرا
بول شاوول: البيكاديللي كان الوجه الأول للحداثة في شارع الحمرا

في عام 1965 افتتح وزير الداخلية آنذاك بيار الجميل مسرح قصر البيكاديللي الذي صمّمه وبناه المهندسان اللبناني وليم صيدناوي والفرنسي روجيه كاشار، معتمدين شروطا هندسية تليق بالأعمال الفنيّة الضخمة.

وتزيد مساحة المسرح عن ألفي متر مربّع، وتتسع قاعته لحوالي 800 شخص وتميّزت بمقاعدها المخملية الحمراء وزيّنت جدرانه بصور لكبار الفنانين مثل اللبنانية فيروز والفرنسية داليدا ومواطنها شارل أزنافور بجانب فرق فنية أوروبية وأميركية.

واستوحي اسمه من أحد مسارح لندن الشهيرة “بيكاديللي سكوير”، واعتُبر أول صرح فني ثقافي في شارع الحمرا وأحد أهم وأضخم المسارح اللبنانية.

وافتُتح البيكاديللي بعروض لفرقة “أوبيرا فيينوار”. وارتبط اسمه لاحقا بالسيدة فيروز والأخوين رحباني، حيث قدموا على خشبة مسرحه مسرحيات غنائية منها هالة والملك (1967)، والشخص (1968)، ويعيش يعيش (1970)، وناس من ورق (1971)، ولولو (1974)، وميس الريم (1975)، وبترا (1977).

وبعيدا عن الفن اتخذ الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (1929 - 2004)، وفق تقارير صحفية، من قصر البيكاديللي أكثر من مرة “ملجأ” له خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.

وبعد توقفه خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990) أعُيد العمل في المسرح في التسعينات حتى احتراقه وإغلاقه، وهو خبر ضجّت به الصحف ونشرات الأخبار في أغسطس 2000، ليطوي حقبة مشرقة من تاريخ الفن والثقافة في بيروت.

وقال الشاعر والكاتب المسرحي بول شاوول إنه “كان من أهم المسارح وأفضلها من ناحية العمارة والتصميم والتقنيات في ذلك الحين”.

ولفت إلى أنه “مر على هذا المسرح اللبناني العالمي أهم وأشهر المغنين والموسيقيين العرب والأجانب أمثال الفنانة الفرنسية داليدا والموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس وشارل أزنافور والرحابنة والفنان اللبناني روميو لحود”.

كما أن “البيكاديللي كان الوجه الأول للحداثة في شارع الحمرا كمعمارية ودور ثقافي ونُظمت فيه مهرجانات فنية (موسيقية وغنائية) مهمة”، بحسب شاوول.

وأوضح أن مع بدء الحرب الأهلية تراجع دوره في شارع الحمرا بعد إقفال المسارح والسينمات بسبب الأوضاع التي فرضتها الحرب.

البيكاديللي لا يزال محفورا في ذاكرة اللبنانيين الذين يأملون في إعادة الاعتبار إلى قيمة وذاكرة ثقافية اشتُهرت بها بيروت

أما اليوم، بحسب شاوول “فهو بقايا ذكريات يحتاج إلى الملايين من الدولارات لإعادته”، متمنيا “عودته إلى ما كان عليه من دور ثقافي وفني رائد في لبنان والعالم العربي”.

وقال عضو تجار شارع الحمرا محمد الريس “تم افتتاح قصر البيكاديللي في الستينات في عز ازدهار لبنان اقتصاديا حيث كان من أهم القصور المسرحية في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وبقي حتى بداية الحرب الأهلية حتى تغيرت الظروف كليا”.

وتابع “تردد على المسرح أشهر الفنانين العرب على رأسهم الفنانة فيروز وعبدالحليم حافظ وصباح ووديع الصافي، إضافة إلى أعمال أقوى الممثلين في العالم العربي منهم مسرحيات للممثل المصري الشهير عادل إمام (مدرسة المشاغبين) وغيرهم الكثير”.

و”في ذلك الوقت كان على كل من يأتي إلى لبنان زيارة شارع الحمرا ولاسيما مسرح البيكاديللي وكان يحتاج إلى أسابيع للحصول على حجز لأي عمل مسرحي وعلى رأسها أعمال الست فيروز”، وفق الريس.

وتمنى “أن تعود ظروف البلد إلى ما كانت عليه في تلك الأيام لإعمار قصر البيكاديللي ويرجع أفضل مما كان عليه”.

وبالنسبة إلى أسباب إقفال هذا المسرح العريق، قال الريس إنها “ظروف الحرب التي مرت على لبنان إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعاقبت منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990”.

ترميم المسرح

صالة مر بها أشهر الفنانين العرب
صالة مر بها أشهر الفنانين العرب

جمال (62 عاما) يعمل كحارس للمسرح وهو من الذين عايشوا زمن مسرح البكاديللي.

وبحسرة، قال جمال إنهم كانوا يجمعون الأموال من شهر إلى شهر ليأتوا إلى شارع الحمرا وحجز إحدى المسرحيات والمهرجانات في البكاديللي.

وأضاف “فقدت العاصمة الكثير، ولكن لا يستطيع أحد أن يلتهم الذاكرة أو يمحوها”. لكن ثمة بارقة أمل إذ تداولت وسائل الإعلام قبل أشهر أخبارا عن إعادة ترميم مسرح قصر البيكاديللي.

وفي أكتوبر الماضي أعلن وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى أن “أزمة البيكاديللي شبيهة بأزمة شارع الحمرا، حيث أن هناك كثيرا من التحديات التي تواجه عمل الوزارة، إلا أن موضوع الترميم قد وُضع على سكة العمل”.

لكن مصادر فنية قالت إنه جرى تأجيل مشروع إعادة ترميم المسرح الذي أعلنه الوزير المرتضى بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان.

ومنذ 2019، تعصف بالبلاد أزمة اقتصادية حادّة صنّفها البنك الدولي واحدة من أشد 3 أزمات في العالم، وأدّت إلى انهيار مالي ومعيشي وشحّ بالوقود والطاقة والأدوية.

وحاليا، تمتلك وزارة الثقافة مسرح قصر البيكاديللي، بعد أن تملكت لجنة الودائع الوطنية (مؤسسة عامّة) المبنى بالكامل وأوكلت القصر إلى الوزارة بعد أن كان ملكيّة خاصّة للأخوين خالد وهاشم عيتاني بحسب جمعية “تراث بيروت”.

15