فنان فلسطيني يحفظ ذاكرة القدس من خلال لوحاته

خصص الكثير من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين أعمالهم لتوثيق التاريخ الفلسطيني وحفظه من الضياع، فكانت خصوصية أعمالهم تنبع من رسائلهم الفنية التي تشتبك بالضرورة مع الواقع الصعب الذي يفرضه الاحتلال والتهجير وغيره من قضايا مثلت بصمة خاصة للأعمال الفنية الفلسطينية.
القدس - الفن التشكيلي، وجهٌ آخر يعمد الكثير من الفلسطينيين إلى تطويعه ليسردوا للعالم حكاية بلدهم، وخاصة درّته مدينة القدس الشرقية المحتلة.
الفنان التشكيلي شهاب القواسمي انتهج طريق الفن ليوثّق القدس الشرقية من خلال لوحات تحكي سيرة المدينة وتاريخها، ليتعرف جيل المستقبل على تراثها وتاريخها.
رصيد القواسمي، وهو من سكان القدس الشرقية، يزخر بعشرات اللوحات الفنية التي تسرد حكايات مدينته، ويغلب عليها استخدام اللونين الأبيض والأسود، بحيث تبرز عراقة المدينة دون أن تغيب الألوان تمامًا عن جميع لوحاته.
القدس منذ الطفولة
القدس القديمة ومنازلها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وأبواب السور التاريخي للمدينة، تفاصيل تعكسها في أبهى حلّة لوحات القواسمي الذي يصف نفسه بأنه “متخصصٌ في توثيق مدينة القدس من خلال الرسم”. وفي حديث معه يشير الفنان الفلسطيني إلى أنه اكتشف موهبته الفنية في طفولته المبكرة وتحديدًا ما بعد نكسة العام 1967.
موهبة الرسم برزت عند القواسمي منذ الطفولة، عندما كان في المرحلة الابتدائية، ونمّاها في المرحلتين الإعدادية والثانوية بانضمامه إلى نشاطات اللامنهجية في المدارس فكان يمارس الرسم بعد الدوام المدرسي.
ولاحقًا، يقول القواسمي “التحقت بكلية بتسلئيل التابعة للجامعة العبرية في القدس الغربية، ودرست لمدة عامين وحصلت على دبلوم التربية الفنية، وأرسلوني بعثة لفترات قصيرة في فرنسا والنمسا وبدأت مشواري بشكل احترافي في العام 1978”.
في الفترة ما قبل نكسة العام 1967، كانت عائلة القواسمي تقيم في حارة السلسلة الملاصقة لحارة المغاربة بالبلدة القديمة، والتي بقيت قائمة حتى أزالتها السلطات الإسرائيلية خلال ذات الحرب في نفس العام، بحسب القواسمي.
وخلال النكسة سكنت العائلة بيتا مستأجرًا في وادي الجوز، أما بعد انتهاء الحرب بأيام، عندما كان في السابعة من عمره، رافق والدته لرؤية ما حلّ بمنزلهم، “فلم نجد المنزل” يقول القواسمي، ويضيف “كان قد هدم وكل منازل حارة المغاربة، فالجرافات الإسرائيلية جرفت الحي بالكامل”.
مشهد اختفاء منزل عائلته علق في وجدانه، ينقل القواسمي شعوره بالقول “كنت طفلاً أبحث عن المنزل ومنذ ذلك الحين بقيت ذاكرتي في منزلنا، نما حبي لمنزلنا القديم وللبلدة القديمة وللقدس بأكملها، فمنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لا أرسم إلا موضوعًا واحدًا، وهو القدس”.
لوحات القواسمي تنقلك إلى التفاصيل الدقيقة للبلدة القديمة، فالمشربيات (شرفات خشبية) واضحة في لوحاته، وكذلك البلاط القديم الذي كانت تُرصف به أزقّة البلدة القديمة.
“القدس عبارة عن كنز حقيقي” يعبّر القواسمي، ويضيف “وأنا من خلال الرسم أوثق لهذه المدينة، ورسالتي كفنان مقدسيّ هي أن أوصل المعلومات التي أعرفها عن القدس أيام الآباء والأجداد إلى أولادي وأحفادي في المستقبل”.
وضرب مثلا على ذلك باب العامود، الذي يُعتبر من أشهر أبواب البلدة القديمة في القدس الشرقية، فقد جُدّد في حياته مرتين، “ولكن أولادي وبناتي وأعمارهم في الثلاثينات”، يقول القواسمي، “يعرفونه كما هو عليه الآن، في حين أنه في طفولتي وشبابي وأيام أبي وجدّي لم يكن هكذا”.
يحتفظ القواسمي بالرسومات القديمة، ويرسم باب العامود كما كان في الماضي، وكما هو عليه الآن، “مع إظهار الخطوات التهويدية التي قامت بها السلطات الإسرائيلية بحجة تطوير ملامح المدينة”.
“رسالتي هي أن أنقل القدس كما كانت في الماضي إلى الحاضر وجيل المستقبل”، يتابع القواسمي.
ويضيف “أنا أقول بالرسم هكذا كانت مدينتنا أيام الأصالة والحب والاطمئنان، مدينة سلام بعيدة عن ممارسات الاحتلال، هذه القدس أيام الآباء والأجداد، وأتمنى أن يكون المستقبل أفضل لي ولأولادي وأحفادي وأهل القدس”، خاصة أن بعض اللوحات توثّق معالم اختفت في البلدة القديمة مع مرور الزمن، أو بفعل ممارسات السلطات الإسرائيلية.
أبعد من الرسم
رغم أنه يمضي جزءًا كبيرًا من وقته في الرسم، يشير الفنان إلى أن هوايته لا تمثل مصدر رزقه الوحيد، إذ لديه مكتب دعاية وإعلان في المدينة. ولأن الإقبال على شراء اللوحات الأصلية ليس واسعًا من داخل وخارج فلسطين، يستخدم رسوماته في إعداد كتب توثيقية.
وفي هذا الإطار يقول القواسمي “أستخدم رسوماتي بشكل مطبوعاتٍ دورية، على شكل أجندات وإمساكيّات رمضان ورزنامات سنوية وإعلانات وكتب”.
خلال مسيرته الفنية، أقام القواسمي أكثر من 20 معرضًا فرديًّا في القدس والمدن الفلسطينية وأمّ الفحم والناصرة والرامة وطمرة، كما شارك مع زملاء آخرين في معارض مشتركة في محافظات الوطن وخارج فلسطين، حسب قوله. ويضيف “قدمت معارض شخصية في الأردن وتركيا وروسيا، ولاحظت حبّ الجمهور، حتى الأجنبي، لمدينة القدس، فالقدس مدينة كونية والكل يحبها”.
“في أي معرض أشارك فيه”، يخبرنا القواسمي، “يكون الإقبال شديدًا على المعرض وأشاهد في عيون الجمهور أنه يتمعّن في الرسومات ويسألني الزوار أسئلة استيضاحية أستشفّ من خلالها مدى شغفهم بالمدينة”.
منذ أن أزال الاحتلال منزلهم وحيهم في طفولته وحتى اليوم لا يرسم الفنان إلا موضوعًا واحدًا، وهو القدس
وفي هذا الصدد يشير إلى أن “القدس مدينة عالمية ومقدسة ومحتلة، وأهلها يعانون ويتم تهجيرهم منها، وبالتالي علينا أن نصبر على الوضع وكلٌّ منا يقدم ما يقدر عليه من أجل المدينة”.
بعد الكتاب الذي أنجزه عن القدس في العام 2016، أنهى مؤخرًا كتابًا عن المسجد الأقصى المبارك بعنوان “قناديل الأقصى”، وهو عبارة عن “مجلّد كبير من 300 صفحة من الحجم الكبير، يضمّ 124 رسمة لأهم معالم المسجد الأقصى” وفقًا له.
كان طموحه أن “لا يكون الكتاب فلسطينيًا محليًا فقط، وإنما عالمي”، ومن أجل ذلك يقول “أصدرته بـ4 لغات هي العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية، وهو موجود الآن على شبكة أمازون العالمية، ويلقى رواجًا جيدًا”.
بالنسبة إلى مشاريعه المستقبلية، يتحدّث القواسمي عن مشروع مشترك مع أخيه الكاتب والروائي عيسى القواسمي، سيصدر بعنوان حارات أو شوارع القدس العتيقة، وسيضمّ 100 رسمة لأهم أحياء وأزقة البلدة القديمة، “فمني الرسم ومن أخي عيسى النص، وقد بدأنا به وأطمح أن يتم إصداره العام القادم” بحسب قوله. ومؤخرًا شارك القواسمي في معرض مشترك نظمه المركز الثقافي التركي بالقدس مع الفنانة التركية أوزليم أقا، تحت عنوان “القدس بعيون تركية وفلسطينية”.