مصالحة مصر مع قطر وتركيا قللت من أوزان إعلاميي الخصومة والصوت العالي

الإعلام المصري يجد في الخلافات الخارجية ملاذا لزيادة نسبة المشاهدة.
السبت 2022/12/10
هدوء

القاهرة - تتغذى وسائل الإعلام على الصراعات، ويحقق إعلاميون رواجا لافتا في ظل انتشار النزاعات، لكن لم تَمت وسيلة أعلت من شأن المهنية ورأت في الموضوعية خيارا لتناول القضايا التي تتطرق إليها طالما أنها قادرة على ضخ دماء جديدة في شرايينها، فهناك الكثير من الصحف مضت على صدورها عقود طويلة وعاصرت أنظمة مختلفة ونجحت في التأقلم مع المستجدات والتحولات السياسية.

ولا يلغي التكيف أن هناك إعلاميين خسروا أو يمكن أن يخسروا مواقعهم لأنهم اختاروا طريقا غير مهني أو لم يغيروا تصوراتهم وقناعاتهم بما يتماشى مع الواقع الجديد.

ويمر البعض من الإعلاميين في مصر بمأزق، حيث تغذوا طوال الأعوام العشرة الماضية على الخصومة مع قطر وتركيا وجماعة الإخوان، ووجدوا في الإرهاب مطية لتوجيه منابرهم تجاه قوى متهمة بدعم رموزه في مصر والمنطقة.

وانحسر أو اختفى العداء بين القاهرة والدوحة وأنقرة في الوقت الراهن، ولم تعد وسائل الإعلام تأتي على أي منهما بالسلب، كما أن الحديث الإيجابي أو العتاب غير مسموح به لاعتبارات سياسية، وتراجع تأثير جماعة الإخوان في الداخل، ولم يعد العزف على أسطوانة الإرهاب يجذب الناس.

بعض الإعلاميين في مصر في مأزق، حيث تغذوا طوال الأعوام الماضية على الخصومة مع قطر وتركيا وجماعة الإخوان

ومن تابع أداء الكثير من الإعلاميين المصريين في الفترة الماضية يجدهم ابتعدوا عن هذه الملفات إلا قليلا، حيث انتهوا من فقرة تبرير الهجوم سابقا ولم تظهر بعد أي ميول للمديح، وهو لا يطرب الجمهور عموما، وبدت غالبية البرامج الليلية المعروفة بـ”التوك شو” أشبه بالطعام المسلوق الذي يتعاطاه المرضى، أو بمعنى أدق خالية من الصوت العالي والسب، فلم يعد هناك عدو يستحق أن تصب عليه اللعنات.

وتضج مصر بالأزمات الداخلية، ولم تكن وسائل الإعلام تقترب منها، ووجدت في الخلافات الخارجية مع قطر وتركيا ملاذا لمحاولة جذب الجمهور، وسواء أفلحت أو أخفقت وجد الكثير من الإعلاميين مادة حيوية يمكن تسلية الناس بها.

واختفت تقريبا الملفات الخارجية المزعجة للقاهرة، وأصبح على الإعلام البحث عن ملفات أخرى لا تقل أهمية، فلم يجد قضية خارجية حيوية يمكن الهروب إليها، وهذا لا يعني أن مصر بلا أزمات أو تحديات إقليمية، لكن لأن هناك “فيتو” أو خطوطا حمراء دائما على تناول الملفات المتعلقة بها، فلم يتم التطرق إليها.

ولا يجد المتابعون للإعلام المصري ذكرا بالخير أو الشر لإيران وإثيوبيا وحزب الله وحركة حماس، وانضمت إليهم قطر وتركيا حاليا، ناهيك عن أن تناول الأوضاع في السودان وليبيا يخضع لسياسة لا تسمح بالتعرض لما يجري فيهما بأي انتقادات.

وكبحت مجموعة من القيود المعلنة والضمنية رغبة الكثير من الكتاب، وكبلت حركتهم في تناول العديد من القضايا، كما وضعت جملة من العلامات أمام برامج التلفزيون وجعلت غالبيتها عديمة الجدوى، لأن اختيار الضيوف يتم على أساس الولاء للسلطة، ولا يوجد هامش للحديث بمهنية، وهي القاعدة التي تضمن النجاح للإعلام ويؤدي اختفاؤها إلى تعثره، وهو التفسير الوحيد لفشل الكثير من وسائل الإعلام في تحقيق أهداف الدولة المصرية على الرغم من توافر إمكانيات مادية وفيرة لها مؤخرا.

وبدأت بعض وسائل الإعلام تتجه نحو تناول القضايا الداخلية، غير أن القاسم المشترك بينها خامل وتبريري، ومقيد بضوابط صارمة يصعب أن تجد أحدهم يخترقها شرودا أو هروبا أو امتعاضا، فهناك بوصلة تحدد سقف المعالجة، والمسموح والممنوع.

وإذا استمر الحال على ما هو عليه سوف يصاب الإعلام بمزيد من العطب، وتختفي الأسماء التي حصلت على شهرتها من ارتفاع صوتها والضجيج الذي تحدثه وحجم التضليل الذي تقوم به، وكان يمكن القبول به عندما كانت أجهزة الدولة تواجه تحديات أمنية وتخوض معارك ضارية مع جهات إقليمية.

ويفرض تواري الخصوم تقديم خلطة إعلامية داخلية صريحة، لأن المسكنات التي تم الاعتماد عليها سابقا لم تعد مجدية أو مفيدة، ولا يستطيع أي من إعلاميي المؤسسات الرسمية تكرارها، حيث يصعب تقديم تطمينات أو نثر تفاؤل وهناك شريحة عريضة من المواطنين تعاني كي تفلح في تجاوز أزماتها الحياتية المباشرة.

كما أن نغمة التعريف بالمشروعات القومية يتم تقديمها بصورة دعائية تضر أكثر مما تنفع، لأن مردودها غير ملموس ويصر المسؤولون على حشر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في كل كبيرة وصغيرة منها، ما يجعله هدفا للمتضررين من الإصلاحات، فما يقدم في وسائل الإعلام يبدو بعيدا عما تعيشه فئة من المواطنين.

مجموعة من القيود المعلنة والضمنية كبحت رغبة الكثير من الكتاب وكبلت حركتهم  كما وضعت جملة من العلامات أمام برامج التلفزيون وجعلت غالبيتها عديمة الجدوى
مجموعة من القيود المعلنة والضمنية كبحت رغبة الكثير من الكتاب وكبلت حركتهم  كما وضعت جملة من العلامات أمام برامج التلفزيون وجعلت غالبيتها عديمة الجدوى

وفضح تسكين عدد كبير من الأزمات الخارجية محنة الإعلام المصري، والتي كان يلتحف بها خلال السنوات الماضية، عملا بقاعدة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، وإذا كانت المعارك خفت حدتها ولم تعد هناك حاجة إلى الهجوم على أطرافها، فكيف يقدم عدد كبير من الإعلاميين وجباتهم للجمهور؟

أدت الممانعات المفروضة على تناول بعض الملفات الداخلية والخارجية بدرجة عالية من الحرية إلى لجوء بعض وسائل الإعلام إلى “النوستالجيا”، أي الحنين إلى الماضي عبر استعراض قضايا قديمة واستدعاء شخصيات ناصعة، وتسليط الضوء على الحوادث الجنائية وفضائح الفنانين وقصص الزواج والطلاق، والإثارة بوجه عام، بما أوحى بأن مصر تعيش فوق بركان من المشكلات الأخلاقية.

وتحولت الحوادث الفردية لعدد من المشاهير إلى موضوعات تقدم في أشهر البرامج التلفزيونية، وأعرق الصحف في مصر، والتي وجدت نفسها مضطرة إلى ملء مساحاتها بأخبار وتقارير وتحقيقات كان الاقتراب منها يمثل جريمة مهنية في أوقات سابقة، ثم تحولت إلى التعامل معها باعتبارها مادة أساسية.

ويمكن أن تستمر المحنة وربما تتزايد في ظل وجود إصرار على الاقتناع بأن الأمور تسير على ما يرام ولا أحد من المسؤولين يشعر بالندم أو الخيبة من أن الإعلام يسير نحو الهاوية بعد أن فقد قدرته على استنشاق هواء نقي يسمح بتناول مختلف القضايا المصيرية، ويرى الجمهور صوتا أو كتابة تنبض بالحياة.

يمنح هذا الطريق فرصة لوسائل الإعلام التابعة لجماعة الإخوان لتقديم رواياتها المغلوطة التي تنال من الدولة المصرية ونظامها الحاكم، لأنه لا توجد رواية مقابلة، وإن وجدت تلجأ إلى التبرير، فوسط الغياب الكبير للحصول على المعلومات تزداد الشائعات، ومع استمرار التضييق من الصعوبة أن يشهد الإعلام المصري رواجا جديدا، إلا إذا عادت الخصومة مع بعض القوى الإقليمية إلى عهدها السابق.

وهذا رهان يصعب حدوثه، لأن القاهرة وجدت في الهدوء وسيلة سياسية مريحة ولو أغضبت الإعلاميين الذين من واجبهم المطالبة بتفكيك القيود المفروضة عليهم، والتي يتحملون جزءا كبيرا منها، لأن عددا كبيرا منهم تأقلم معها ولا يستطيع الفكاك منها، وإذا لم تطلبها الحكومة لفرضها على نفسه.

16