عبدالعزيز المقالح.. خمسون عاما في دائرة الضوء

أدباء ومثقفون عرب: رحيل المقالح خسارة لشخصية فريدة.
الاثنين 2022/12/05
نافذة العالم الأدبية والثقافية لليمن

نعى أدباء ومثقفون وسياسيون يمنيون وعرب وفاة الشاعر والأديب اليمني عبدالعزيز المقالح الثلاثاء التاسع والعشرين من نوفمبر، عن عمر ناهز 85 عاما وذلك بعد معاناة مع المرض، رحيل مازال صداه مترددا بين الأوساط الثقافية العربية، نظرا لمكانة الراحل التي ترصدها “العرب” في أعين المثقفين والأدباء العرب.

عدن - اعتبر أدباء وكتاب رحيل الأديب والشاعر اليمني البارز عبدالعزيز المقالح بأنه خسارة فادحة للمشهد الثقافي اليمني والعربي يصعب تعويضها، نظرا إلى المكانة المرموقة التي كان المقالح يحتلها كواحد من أهم الشعراء والنقاد والأكاديميين العرب الذين أثروا الساحة الأدبية والثقافية بالعشرات من الكتب.

ظاهرة حقيقية

يصف الروائي والباحث اليمني وسفير اليمن الأسبق لدى اليونسكو الدكتور علي محمد زيد رحيل “العملاق” المقالح بأنه مثّل صدمة كبيرة وخسارة فادحة للثقافة العربية وللحركة الثقافية في اليمن، ضاعفت من تأثيرات المأساة التي يعيشها اليمن حاليا بانهيار المؤسسات الثقافية والصحفية واندثار النشاط الثقافي.

ويشير في تصريح لـ”العرب” إلى أن المقالح شخصية ثقافية استثنائية لن يجود زمن اليمن بمثلها إلا بعد قرون. حيث “عاش حياة جمعت بين عظمة الإنتاج الثقافي والمساهمة في تجديد الشعر العربي وتطوير اللغة العربية لتستجيب لمتطلبات عصرنا والزهد والتواضع والتمسك بالمبادئ الجمهورية التقدمية من بداية نضاله في الخمسينات حتى رحيله الحزين دون تراجع عن قناعاته المبدئية، كما ترك لليمنيين سيرة غنية من المثابرة في اكتساب المعارف ومن الإنتاج الثقافي دون كسل ومن الإبداع. وعلى الرغم من أنه لم يغادر اليمن بعد عودته من منفاه الاختياري في القاهرة في أواخر سبعينات القرن الماضي، كان في الواقع أكثر المثقفين اليمنيين إشعاعا على المستوى العربي والعالمي”.

المقالح توفي عن عمر ناهز 85 عاما بعد معاناة مع المرض
المقالح توفي عن عمر ناهز 85 عاما بعد معاناة مع المرض

ويقول رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الأكاديمي مبارك سالمين إن رحيل المقالح فقد كبير، وأضاف “قامة باسلة وغيث كان يظلل سماء الثقافة اليمنية والعربية أي فقد وأي أسى أن تغادرنا البلاد، متشحة بالحزن في شخصه الكريم وتتركنا للفراغ الذي لا يرحم، لقد غادرنا اليوم المعلم الشاعر والأديب العربي الكبير والأب والمربي الدكتور المقالح، الحزن فينا يكبر. والوردة في وداعه تشيخ، والمشهد الثقافي يتيم”.

وفي تصريح لـ”العرب”، يعلق الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي على رحيل المقالح مؤكدا أننا “نشهد أفول عصر الشعراء الكبار” ويتابع “يأتي غياب الشاعر الكبير المقالح الفاجع، ليذكّرنا بخسارتنا لواحد منهم، فغيابه هو غياب لقامة شعرية عربية لها تأثيرها على جيل من الشعراء الشباب خصوصا في اليمن، وبصمته واضحة في نتاجاتهم وتتمثّل هذه البصمة في صوفياته (أبجدية الروح على وجه الخصوص)، واحتفائه بالمكان (كتاب صنعاء)، والتاريخ اليمني، والموروثات الشعبية والميثولوجية في عموم دواوينه”.

ويضيف “لقد كان شخصية مؤثرة سواء في شعره أو في كتاباته النقدية، أو في شخصه كإنسان له حضوره، ونشاطاته المتعددة في المجتمع، فقد قدّم مثالا للشخصية المحورية التي يتجمع حولها الأدباء والأكاديميون والمثقفون، وقد استمر هذا إلى آخر أيامه، وانعكس هذا التأثير على طلابه، وسيمتدّ تأثيره إلى أجيال قادمة”.

ويعتبر الشاعر المصري عيد عبدالحليم رئيس تحرير مجلة أدب ونقد أن الشاعر الكبير الراحل المقالح يعد حالة خاصة في الشعر العربي الحديث، حيث تميزت تجربته الشعرية بخصوصية الرؤية التي جمعت ما بين التراث والمعاصرة، فمنذ ديوانه الأول وحتى قصائده الأخيرة نجده مسكونا بالتاريخ ومؤكدا على الهوية، وهذه إحدى السمات المميزة لإبداع المقالح بشكل عام ولجهده الفكري والنقدي أيضا، وهي النزعة القومية، التي تستقي من الماضي العربي المشرق طريقا للمستقبل، لذا نراه يستحضر في دواوينه حضارات الشرق القديم في مصر واليمن والعراق والشام، ويستحضر اللحظات المضيئة في التاريخ الإسلامي كل ذلك من أجل التأكيد على وحدة الوجود العربي المؤسس على بعد حضاري عميق.

ويضيف عبدالحليم في تصريح لـ”العرب” “كان المقالح مثل أبناء جيله من الشعراء العرب أمثال أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبوسنة ومحمد علي شمس الدين وسعدي يوسف محبا للتراث ومحورا له ومناقشا، يربط ما بين الأزمنة القديمة والحديثة من أجل البحث عن غد أفضل للأجيال القادمة”.

وأشار الشاعر اليمني علوان الجيلاني إلى أن الدكتور المقالح ليس مجرد شاعر أو مثقف أو كاتب كبير، هو ظاهرة حقيقية؛ بل حالة من حالات التميز الكبرى، فقد كان بين عدد قليل من الكتاب اليمنيين الذين كسروا عزلة اليمن وهامشيته وحضروا مع زملائهم العرب بوصفهم قامات كبيرة يشار لها بالبنان، لكنه كان أكثر ذلك العدد القليل حضورا وعلاقات وفاعلية، وكان من بين عدد قليل من المبدعين اليمنيين الذين مدوا جسور الإبداع اليمني مع العالم، لكنه كان في الغالب هو المحرك والمفعل والمحفز. وكان من بين عدد قليل من الأدباء والكتاب اليمنيين الذين امتلكوا مشروعا إبداعيا وثقافيا، واشتغلوا عليه بإخلاص وجد ومثابرة حتى آخر نفس.

عبدالرزاق الربيعي: غيابه هو غياب لقامة شعرية عربية لها تأثيرها على جيل من الشعراء الشباب خصوصا في اليمن
عبدالرزاق الربيعي: غيابه هو غياب لقامة شعرية عربية لها تأثيرها على جيل من الشعراء الشباب خصوصا في اليمن

وتابع الجيلاني في تصريح لـ”العرب” “لقد كان في إخلاصه ومثابرته يمثل تحديا حقيقيا لكل الأدباء اليمنيين، وكان غريبا أن العشرات من الكتاب والباحثين اليمنيين ما أن يتولى الواحد منهم منصبا رفيعا أو متوسطا حتى ينشغل به عن الكتابة، فيما كان المقالح يجمع بين عدة مناصب ولم تشغله عن الكتابة، وبدل أن تجر المناصب الكاتب لمشاغلها، سخرها هو لمشروعه الأدبي، واستطاع أن يبقى مدة خمسين عاما في دائرة الضوء، لم يغادرها ولن يغادرها بموته فقد تحول إلى رحيق في الذاكرة الأدبية الإنسانية. وليس من الممكن تجاوز دوره وإبداعاته أبد الدهر”.

ويصف الروائي المصري أحمد محمد عبده الشاعر المقالح بأنه من أهم رواد الحداثة في العصر العربي الحديث ومن كبار أعلام الشعر العربي المعاصر ومن أهم أعمدة الثقافة والتنوير في اليمن والعالم العربي، لافتا إلى أن إسهاماته النقدية شكلت أجيالا يمنية وعربية، اليمن والعروبة همه الأكبر، فيقول “لا بد من صنعاء” 1971، ثم يستنطق “مأرب” 1972، ويرسل رسالة إلى سيف بن ذي يزن في 1973 ويكتب بسيف الثائر علي بن الفضل 1978، ويقف على قبر عبدالناصر في 1970 ويكتب عن عبدالناصر واليمن، ويتأمل في مذاهب الزيدية والمعتزلة، ثم يكتب عن أزمة القصيدة الجديدة.

مؤسسة ثقافية

يشدد الشاعر اليمني أحمد عباس في تصريح لـ”العرب” على أن الدكتور المقالح لم يكن شاعرا وأديبا وأكاديميا فحسب، بل كان مؤسسة ثقافية متكاملة الأركان، ويضيف “لم يترك للصدفة حيزا في حياته، كان يعرف ماذا يريد من البداية، فبعد أن شارك في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة وقدم تضحيات جسام في مواجهة الطغيان سافر للقاهرة ليكمل دراسته الجامعية بكل دأب وجد، وتحصل على الدكتوراه من جامعة عين شمس في العام 1977 وعاد بعدها ليصبح نافذة العالم الأدبية والثقافية لليمن، ونافذة اليمنيين الثقافية والأدبية للعالم.

ويتابع “استقطب أهم الأكاديميين للتدريس في جامعة صنعاء، مثل عزالدين إسماعيل وعبدالملك مرتاض عبدالسلام الشاذلي والكثير من أمثالهم، ولن نتحدث هنا عن المكانة الأدبية والشعرية للدكتور المقالح  فقد خلد اسمه بأحرف من نور بين كبار شعراء العربية في القرنين الأخيرين، ولكن نتحدث عنه كثائر رفض الظلم وقارع الظلمة منذ نعومة أظفاره، ومما يؤسف له أن تأتي وفاته وهو يرى الثورة التي قدم لها الكثير هو ورفاقه تتعرض لنكسة كبيرة أحزنته في آخر أيامه وأثرت على نفسيته“.

ويرى الصحافي والباحث السعودي علي محمد الرباعي أنه من النادر جدا أن يجمع الله في فرد واحد خصائص ثقافية ومعرفية وأدبية وفنيّة وإنسانية يتبوأ بها مكانة مرموقة في الأوطان ويحتل بالمحبة مساحات من بشريّة سمعت به فشدّت إليه الرحال، كما هو حال الدكتور المقالح الذي عاش ناسيا أو متناسيا نفسه وصحته، ليعتني بالعمل وتفقد المدراء والمبدعين واستقبال الزائرين وتعريف القاصدين بما ينبغي تعريفهم عليه.

المقالح كان مثل أبناء جيله من الشعراء العرب محبا للتراث ومحورا له ومناقشا يربط ما بين القديم والحديث

ويتابع في حديث لـ”العرب” “كنتُ من ضمن كثير من الإعلاميين والمثقفين الذين قصدوه، وهذا تقريبا عام 2006، لألتقي بهذه الشخصية الآسرة، الذي كان حريصا أن يؤدي واجباته العملية المحددة سلفا، ويخصص لنا وقتا، ثم يكلّف أصدقاء بمرافقتنا لاستكمال جولتنا، ثم يتصل ليحدد لنا مكان المقيل، ويحضر المقيل مُصغيا ومتأملا ومتمليا ويداخل إن لزم الأمر بصوت خفيض، مهذّب، ولهذا شعرنا أن صنعاء هي المقالح والمقالح هو صنعاء”.

ويصف الروائي السعودي علي الأمير رحيل المقالح بأنه رحيل آخر أهرامات الثقافة والشعر والأدب في الجزيرة والوطن العربي، ويتابع في تصريح لـ”العرب” “بقدر ما هو فاجعة خضّتْ قلب كل مثقف عربي، هو تجسيد بالغ القسوة والمرارة للمعنى الحقيقي للفراغ الكبير الذي يُحدثه رحيل العظماء في وجدان شعوبهم. وإذا كان هذا هو أثر رحيله في وجدان محبيه وقُرّائه على امتداد الوطن العربي، فكيف بنا نحن، من عرفناه عن قرب، وتتلمذنا على يديه سواء في جامعة صنعاء، أو في مجلسه ثلاثاء كل أسبوع، فكان ـ لنا ولتجاربنا الأدبيّة ـ المعلم والموجّه والأب الحاني، يتساوى أمامه اليمني وغير اليمني من كافّة الأقطار العربيّة، والكلّ يدّعي ـ صادقا ـ أنّه الأقرب لقلبه الكبير. نعم رحل المقالح إلى جوار ربه، لكنه سيظلّ خالدا بيننا ولن يغادر قلوبنا“.

ويقول الروائي اليمني عمار باطويل إن المقالح هو الصوت الذي يتجدد في ذاكرة الأجيال، فهو يرحل إلى عوالم متعددة المنازل لا يموت فيها بل يحيا إلى أمد طويل مثله مثل امرؤ القيس والمتنبي فهؤلاء مازالوا في ذاكرة الخلود لأن القصيدة خالدة لا تموت مثل المقالح الذي رحل عنا جسدا أما روحه وفكره فيحلقان في سماء الوطن العربي.

12