ليال الخولي ترسم بلادا منذورة للجمال

ابنة السلالة المنشدة للبنان تتشبث بحلم لا ترغب في أن ينتهي.
الأحد 2022/11/27
الرسم طريقة للشفاء من كل حزن

أن يولد المرء في خضم حرب أهلية ويعيش الجزء الأكبر من طفولته في ظل جنونها وهلعها ورعبها وأصوات الإخوة الأعداء العبثية وينذر حياته حين تنتهي تلك الحرب للسلام الذي هو نقيض كل مراميها، فذلك ما لا يحدث دائما. فالكراهية معدية بلغتها وهي تعيش طويلا بعد أن تنتهي الحروب.

ليست الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) استثناء في ذلك. غير أن عددا من فناني ذلك البلد المنكوب ذهبوا إلى النقيض تماما؛ إلى جبهة تكون الطمأنينة هي القضية. ومنهم الرسامة ليال الخولي التي ارتبطت تجربتها الفنية بالمكان، قرية أو مدينة، فلم تُضيق عليها الحرب سبل الرؤية الواضحة ولم تفلح في أن تجعلها متشائمة وغير قادرة على رؤية الجمال الذي ينبعث من الأمكنة التي عاشت فيها في مراحل مختلفة من حياتها.

هوية المكان في جذوره

الخولي ترى بيئة صنعتها الحرب، هي من مخلفات الحرب بعد أن تركت مفردات الخراب آثارها عليها
الخولي ترى بيئة صنعتها الحرب، هي من مخلفات الحرب بعد أن تركت مفردات الخراب آثارها عليها

شغفها بالرسم انبعث من رغبتها في أن ترى المكان بكل تجلياته وتفاصيله حيا على سطوح لوحاتها. فهي وإن كانت لا تصف المكان بطريقة واقعية فإنها تفصح بطريقة أو بأخرى عن هوية ذلك المكان وخصوصيته من خلال تأثيره البصري والنفسي والثقافي. لا ترسم لكي توثق ما تراه. فهي تعرف أن الطبيعة في حال تغير مستمر قد لا يكون اضطرابا، غير أن الجمال يستمد قدرته على البقاء من تحولاته الداخلية.

“كل حجر يروي قصة” ذلك ما تردده. وكل لوحة من لوحاتها لا تقف عند حدود حكاية واحدة. لا أظن أن الخولي تقف أمام المشهد مرة واحدة لترسمه، بل تحتاج إلى أن تتخلى عن أدوات الرسم لكي تنقل إلى خيالها الأفكار التي تنتج عن علاقة تأملية تنشأ بينها وبين المكان. تلك أفكار لا تُرسم ولكنها تهب الرؤية مزاجا مختلفا كما تفعل التوابل مع الطعام. وهو ما يجعلها تعود إلى المشهد نفسه لترسمه مرة ثانية وثالثة ولا يشعر المُشاهد بأن الرسامة تعيد رسم الموضوع نفسه. لا ينطوي الأمر على حيلة وإن كانت حيل الرسم كثيرة.

ما يقوى عليه الرسم

الخولي تتحدث بإيجابية عن الشفاء، غير أن رسومها تشي بنوع من الحزن دفين وشفاف
الخولي تتحدث بإيجابية عن الشفاء، غير أن رسومها تشي بنوع من الحزن دفين وشفاف

الخولي هي ابنة ذلك المكان. لذلك فإنها تعرفه مغمضة العينين. تتأمله دون أن تنظر إليه. فيه نبتت لأفكارها أجنحة. وهي لا تعيش فيه باعتباره ماضيا بل هو حاضرها الذاهب إلى المستقبل. كانت الحرب مقطعا شاذا سيقوى المكان على مقاومة زمنه الزائف. أما الزمن الحقيقي فسيحييه الرسم. الرسوم خالدة وهي تخلد المكان ولا تنفيه عن عاطفته.

تُسعد الخولي أهالي قريتها حين يرون شيئا من خيالهم المعماري في رسومها. ذلك لأنها تغرقهم من خلال رسومها بسيل حكاياتهم. إنها تدفعهم لا إلى الحنين إلى ماض لن يُستعاد بل إلى استئناف حلمهم بحياة تشبههم. هذه المرأة ساحرة تقفز بعصاها على الأزمنة حين تستنهض من أعماق المكان خياله. لوحاتها تمسك بالأسرار التي تجعل المكان رقيقا وخفيفا وعذبا وتُهدي من يقيم فيه زمنا مضافا، يعلن من خلاله انعتاقه من الماضي الذي لم يكن من صنعه.

التجربة الفنية للخولي مرتبطة بالمكان، قرية أو مدينة، لم تُضيق عليها الحرب سبل الرؤية الواضحة، ولم تفلح في أن تجعلها متشائمة

لا تعيد ناسها إلى زمن ما قبل الحرب الذي لم تتعرف عليه بل تضعهم في مواجهة جمال مصيرهم الذي تنطوي عليه مشاهد طبيعية قُدر لهم أن يعيشوا تحولاتها التي لا تتعب ولا يمكن استنفاد قدرتها على إضفاء معان جديدة على الحياة. لقد تعلمت الرسامة كيف تؤثث الأماكن من الداخل. وهو ما أعانها على تأثيث الأماكن التي عاشت فيها من الخارج كما لو أنها لا تريد النظر إلى علامات الحرب.

ولدت عام 1981 في بيروت. درست التصميم الداخلي في الجامعة اللبنانية وحصلت لاحقا على الماجستير في الفنون البصرية.

“فتاة عادية نشأت في ضيعة صغيرة في شدرا شمالي لبنان وقضت معظم طفولتها فيها بسبب الحرب الأهلية” تصف نفسها.

حين اختارتها وزارة الثقافة لتمثل لبنان في ورشة فنية أقيمت في الصين عام 2016 عثرت على فرصتها في عرض رسومها عالميا.

تعتبر الخولي الرسم طريقة للشفاء من كل حزن. وهنا بالضبط تكمن الطاقة الإيجابية التي تتميز بها لوحاتها. فالرسامة تسعى إلى إعادة تركيب المشهد الذي مزقته الحرب. تذهب بخيالها البصري إلى مناطق جمالية أغلق الألم الطرق القديمة التي كانت تؤدي إليها بيسر وهي تصل إلى هناك عن طريق الرسم بخفة.

تقول “لبنان الحقيقي” كما لو أنها تتشبث بحلم لا ترغب في أن ينتهي. في رسومها تستبعد آثار الخراب الذي أحدثته الحرب في البئية والطبيعة غير أنها لا تقوى على طرد ذلك الأثر الفاجع الذي تركته الحرب في النفوس والذي يظهر في طريقة النظر الشبحية إلى مشهد، يشعر المرء حين يراه أنه لم يكتمل. 

ما تلتقطه يظل جميلا

الجمال يستمد قدرته على البقاء من تحولاته الداخلية
الجمال يستمد قدرته على البقاء من تحولاته الداخلية

وبالرغم من أن الخولي تتحدث بإيجابية عن الشفاء غير أن رسومها تشي بنوع من الحزن دفين وشفاف، يمكن أن يكون مصدره ذلك التماس بزمن ضائع لا يزال يتجلى للبنانيين، ليس من خلال ذاكرتهم فحسب بل وأيضا من خلال واقعهم المعيش.

هي ابنة فكرة، لطالما آمن بها الرسامون اللبنانيون. من مصطفى فروخ إلى أمين الباشا لم تنقطع سلسلة الرسامين اللبنانيين الذين عثروا على إلهامهم في الطبيعة فصاروا يتتبعون أثر ذلك الإلهام في غابات الأرز وفي حجارة البيوت وأبوابها وشبابيكها وفي الينابيع والجبال والوديان. شيء أشبه بالمنجم الجمالي الذي لا ينضب صار الرسامون يمدون أيديهم إليه ليلتقطوا لحظات تساميهم بالواقع من خلاله.

الخولي لا ترسم لكي توثق ما تراه. فهي تعرف أن الطبيعة في حال تغير مستمر، والجمال يستمد قدرته على البقاء من تحولاته الداخلية

هي أيضاً ابنة تلك السلالة التي لا تخفي بساطة مواضيعها فخامة أسلوبها في النظر. تشعر الخولي بأن ما تمسك به ليس حجارة بل هو لقية استثنائية انتقلت بالحدث من واقعيته المبسطة إلى خياليته المركبة. فالرسم يفتح أمام الأشياء بابا على عالم شاسع ليس له حدود، عالم هو بحجم لبنان الذي تخيله الشعراء.

هل تضفي الخولي على ما ترسمه طابعا شعريا أم أنها تلتقط الشعر من المشاهد التي ترسمها؟ هذه العلاقة المركبة لا بد أن يعيشها المرء بصريا في مواجهة مشاهد الطبيعة الخلابة. ولكن المسألة بالنسبة إلى الفنانة تتخطى تلك العتبة التي يقف عندها الجميع مبهورين. إنها ترى في الوقت نفسه بيئة صنعتها الحرب، هي من مخلفات الحرب بعد أن تركت مفردات الخراب آثارها عليها.

ولكنها لا تريد أن يغطي ذلك الخراب على الوجه الجميل الذي تشتبك ذكرياتها الحميمة بطريقتها في النظر إلى الطبيعة من أجل استعادته. ذلك ما يهب تجربتها في الرسم قوة إيجابية لا تزين الواقع ولكنها تتسامى به عن لحظاته الحرجة. وهي من وجهة نظر الرسامة لحظات عابرة في الزمن اللبناني الذي تسعى إلى أن تترك بين ثنايا نشيده الخالد شيئا من صوتها.

9