محمد بشير الراشدي الرجل الذي يترجم إرادة العاهل المغربي في محاربة الفساد

بعد تعيين العاهل المغربي الملك محمد السادس لأعضاء الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها نهاية أكتوبر الماضي، أصبحت مهمة رئيسها محمد بشير الراشدي أمام تحديات كثيرة في مواجهة الفساد ومحاربة الرشوة، وهو الذي يقول “نحن بحاجة إلى تصحيح المسارات حتى تشهد أجيالنا القادمة مجتمعًا حرًا ومزدهرًا، كما يجب أن نضمن أن الدولة تحمي جميع المواطنين وتقترب من نقاط التفتيش عن الاختلالات والعمل على تقويمها في هذه الرحلة بمزاج علمي، حتى لا تهتز الثقة العامة في المؤسسات وفي مختلف الجهود المبذولة”.
قبل ثلاث سنوات، تم تعيين الراشدي رئيسا للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، واستكمالاً لذلك تم تكليف اثني عشر عضوا، وكان الهدف منصبّا على تنفيذ سياسات محاربة الفساد وترسيخ مبادئ الحكومة الرشيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة المسؤولة.
والراشدي الذي يشغل منصب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمرصد الوطني للتنمية البشرية، متفائل بشأن تطلعات المغرب إلى حقبة جديدة في مكافحة الفساد، ويذكّر دوما بما تم من إصلاحات، ومنها الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد منذ نهاية عام 2015 واعتماد قانون العام 2021 الذي يكرس مهام وصلاحيات الهيئة.
تحصين المكتسبات
من منطلق تحصين المكتسبات الدستورية، يدرك المغرب جيداً تحديات الحكومة المسؤولة والوقاية من الفساد ومكافحته، وهو ما جعل الهيئة التي يترأسها الراشدي مقتنعة بضرورة تثبيت الضمانات الموضوعية والإجرائية الكفيلة بتحقيق التوازن بين حق الدولة في حماية أمنها وأمن مجتمعها، وحق المواطنين في إثبات براءتهم وحمايتهم من كل تعسف بالتبليغ عن الفساد من أجل دينامية مجتمعية ومؤسساتية بناءة لمكافحته، باعتبار ذلك خيارا حتميا لإحداث تغيير عميق في مستويات المنحنى الذي تشهده هذه الآفة.
ولأن القضاءَ عنصرٌ أساسي في تحقيق العدالة والوقوف ضد استغلال النفوذ والظلم والمحسوبية، فإن الراشدي يعتبر نشر مدونة الأخلاقيات القضائية الذي تم مؤخرا، والذي هدف إلى إشاعة وتعميم المبادئ والمعايير السلوكية والمهنية والحث على احترامها داخل المنظومة القضائية، سيعمل على تعزيز مسار الإصلاح الشامل لهذه المنظومة ذات الأهمية البالغة في إرساء قاعدة صلبة للنموذج التنموي المستهدف، وذلك لما تمثله كعمود فقري لدولة الحق والقانون، وأيضا للحفاظ على استقلالية القضاة وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية.
ويبقى أمام الراشدي تنفيذ تعهده بأن تقوم الهيئة بتفعيل صلاحياتها في مواجهة آفة الفساد والرشوة حتى تأخذ منحنى تنازليا والعمل على الملفات ذات الأولوية، وما عليه سوى عكس إرادة الدولة المغربية الحريصة على محاربة الفساد التي هي قضية الدولة والمجتمع، وهي رسالة الملك محمد السادس خلال خطابه الموجّه للأمة في عيد العرش العام الماضي، والذي بسط فيه خارطة الطريق لمحاربة الفساد الكبير الذي نخر وما زال ينخر في البلاد والعباد، وأن الوقت قد حان لتفعيل المبدأ الدستوري الشهير “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
الراشدي ينتظر منه تنفيذ تعهده بأن تقوم الهيئة بتفعيل صلاحياتها في مواجهة آفة الفساد والرشوة حتى تأخذ منحنى تنازليا والعمل على الملفات ذات الأولوية
خبرة الراشدي في العديد من الجمعيات والمؤسسات غير الرسمية المعنية بالحكامة ومحاربة الفساد جعلته يحذر من مخاطر جديدة للفساد تستغل مواطن القصور والثغرات التي أفرزتها إدارة الاحتياجات الطارئة، بالإضافة إلى ضرورة الالتزام بتعبئة ميزانيات ضخمة في ظل ظروف استثنائية تنكمش فيها القواعد الاحترازية ومتطلبات الإشراف ومراقبة التدبير العمومي.
ولهذا ستكون الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة معززة بموظفين من الإدارة العامة لمراقبة التراب الوطن، والجمارك، وقضاة من المجلس الأعلى للحسابات الذين التحقوا مؤخرا لمباشرة مهام التحري والتحقيق التي ينص عليها قانون الهيئة الجديد.
هؤلاء المحققون، كما يقول الراشدي، يتمتعون بكل صلاحيات ضباط الشرطة القضائية باستثناء الاعتقال والحجز، وتعد محاضرهم ذات مصداقية قانونية، ووضعية هؤلاء تجعلهم يعملون في تكامل مع السلطات والشرطة القضائيتين، وفي نفس الوقت هم مستقلون عن أي سلطة أخرى، ويعملون تحت المسؤولية المباشرة لرئيس الهيئة.
وما دامت الملفات التي ستعالجها الهيئة كبيرة ومعقدة، فهذا يعني أن عدد هؤلاء سيتعزز مستقبلا من أجل مواجهة قضايا الفساد والرشوة.
يعتبر الراشدي أن الإثراء غير المشروع جريمة مستقلة تؤطرها أحكام موضوعية تتمثل في تكامل المقومات الجرمية وما توجبها من العقوبات الحبسية والمالية المتناسبة مع خطورة كل حالة متعلقة بها.
وهو يشدد على أهمية التحديد الواضح للأهداف المنشودة من هذا التشريع، وضمان التكامل القانوني مع مجموعة من النصوص لتعزيز ضمانات فائدة تجريم الإثراء غير المشروع، فالوصول إلى ترسيخ قيم المواطنة المسؤولة يمر عبر القطع مع تشريعات فضفاضة، وينظم ذلك كون قانون الإثراء غير المشروع هو المدخل الأساسي لمحاربة الفساد، وهذا ما يقتنع به الراشدي، دون أن يعني هذا أن كل شخص سوف تتم مساءلته عن ثروته.
توسيع مفهوم الفساد
قد عمل المشرّع على توسيع مفهوم الفساد ليشمل جريمة تبديد الأموال العمومية بدل حصره في جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر، كما ينص على ذلك القانون الحالي للهيئة.
ويشمل مفهوم الفساد أيضا المخالفات الإدارية والمالية التي تشكل سلوكات تتسم بالانحراف وعدم حماية الصالح العام، وتناقض القواعد
المهنية، ومبادئ الحكامة وقيم الشفافية والنزاهة. ويمتلك الراشدي، مهندس الدولة الذي عمل كمدير عام لمجموعة اقتصادية مغربية متخصصة في إنتاج الحلول المعلوماتية، منظوراً شاملاً ومتكاملاً لجعل التصريح الإجباري بالممتلكات رافعة أساسية للشفافية، والحفاظ على تدبير المال العام، وهو التصريح الذي يختص به المجلس الأعلى للحسابات.
وباعتباره شغل منصب مدير لجنة الأخلاقيات والحكومة الجيدة بالاتحاد العام لمقاولات المغرب، يعرف جيدا ماذا يعني تمكين المشرّع المغربي للهيئة التي يرأسها من إجراء أبحاث وتحريات وإعداد تقارير تحيلها على السلطات والهيئات المختصة بتحريك المتابعة التأديبية أو الجنائية حسب الحالة، مع وجوب التنصيص على ضرورة وضع نظام معلوماتي، كأساس في التصريح بالممتلكات، والذي سيتيح إمكانية المعالجة الإلكترونية لما سيتم الوقوف عليه من فرق ما بين المداخيل وما هو مصرح به، وعندما تكون هناك شبهة ما، يتم استخدام هذه الملفات المعلوماتية بكيفية مباشرة ومستهدفة.
الآليات المعتمدة في التحري
سيعمل رئيس الهيئة وفق مقتضيات تشريعية جديدة تتوخى توسيع نطاق مهام الهيئة، ومراجعة آليات اشتغالها وقواعد تنظيم عملها ونظام حكامتها، وذلك بغية تحقيق درجة الفعالية المطلوبة في عملها، وتوطيد الجهود التي تبذلها الدولة من خلال الأدوار المسندة إلى عدد من السلطات والهيئات لمواجهة ظاهرة الفساد بكل تجلياته، والعمل على محاصرتها بالوسائل الوقائية والردعية المتاحة.
ويتطلب ذلك بيئة ملائمة حتى على المستوى التشريعي، حيث أتاح المشرّع المغربي وضع يده على حالات الفساد التي تصل إلى علمها تلقائيا ودون أن تكون مقيدة بوجود شكاية أو تبليغ، فهناك صلاحيات عديدة تمكن الراشدي وهيئته من لعب دور كبير في محاربة الفساد، وبالتالي توفرت إمكانيات واسعة أمامه وأمام هيئته للتصدي تلقائيا لكل حالة من تلك الحالات التي تقع بين يديه، كما يمكنه طلب القيام بتعميق البحث والتحري في الأفعال التي ثبت لها، بناء على معطيات أو معلومات أو مؤشرات، أنها تشكل حالات فساد، واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل ترتيب الآثار القانونية في ضوء النتائج المتوصل إليها.
الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة معززة بموظفين من الإدارة العامة لمراقبة التراب الوطني والجمارك وقضاة التحقوا مؤخرا لمباشرة مهام التحري والتحقيق التي ينص عليها قانون الهيئة الجديد
ويمكن للهيئة تحت إشراف الراشدي إجراء تحقيقات إدارية في وقائع خاصة تتضمن مؤشرات حول شبهة وجود فساد وإعداد تقرير بشأنها، وذلك بالنظر إلى ما تتمتع به الهيئة من استقلالية، وهذا الاختصاص يكتسي طابعا نوعيا سيمكن الدولة من التوفر على آلية موازية ومستقلة للبحث والتحري والتحقيق في القضايا التي لا تكتسي طابعا جرميا ولكن شبهة الفساد قد تحوم بشأنها.
وتتمثل صلاحيات الهيئة في تلقي التبليغات والشكايات والمعلومات في شأن حالات الفساد ودراستها، والتأكد من حقيقة الوقائع المضمنة بها من خلال القيام بعمليات البحث والتحري عبر إجراءات ميدانية تتجسد في الصلاحيات المخولة لمأموري الهيئة من أهمها الدخول إلى مقرات الأشخاص الخاضعين للقانون العام والمقرات المهنية للأشخاص الخاضعين للقانون الخاص وطلب الوثائق والمستندات والاستماع للأشخاص المعنيين.
إن محاربة الفساد غاية مثلى للرفع من مستوى الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الكل على الانخراط في تنمية اقتصادية بالمملكة، ومراعاة ترتيب المغرب في مؤشر مدركات الفساد، والعمل على تحسين السبل نحو تصحيح تلك المرتبة، وتقديم الإجابة العملية حول أسباب عدم القدرة على النجاح في القضاء على هذه الظاهرة التي تُكلّف البلاد الكثير.