ابتسامتها وهي سر سلطتها

هناك قلة من البشر لا تزال تعيش في زمن الراديو، وهي قلة سعيدة حبتها الطبيعة بموهبة نضرة في الإنصات. أن تنصت إلى الصوت فتتخيل شكل صاحبته.
السبت 2022/11/05
تخفي سر جمالها في ابتسامتها الغامضة

كانت للرسام والمصمم والحكاء العبقري محيي الدين اللباد صفحات أسبوعية في مجلة “روز اليوسف” بعنوان “نظر”. تلك التسمية كانت مستلهمة من بيت لبشارة الخوري الملقب بـ”الأخطل الصغير”، هو “إن عشقنا فعذرنا / أنّ في وجهنا نظر”، ذلك البيت هو جزء من قصيدة “جفنه علم الغزل” التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب عام 1933. كان اللباد لاعبا عظيما حين يتعلق الأمر بالعلاقات بين الفنون المختلفة، فهو يعبر ببراعة وخفة من الرسم إلى الفلسفة إلى السياسة إلى المعرفة إلى التاريخ من غير أن يفقد خفته.

كان عميقا بخفة وخفيفا بعمق. ولو لم يكن كذلك لما اختار أن ينظر بعين العاشق.

كان عبدالوهاب قد غنى “طبيب عيون/ يا سلام على العين”، قبل أن يغني العراقي ناظم الغزالي “يا أم العيون السود / ما جوزن أنا / خدك القيمر/ أنا أتريق منه”.

حدث ذلك قبل سنوات من قيام وردة الجزائرية بغناء “العيون السود”، ولكن ماذا “عن يا ليل ويا عين” التي اخترقت الغناء العربي؟

“يا ليل” تشير إلى الأرق و”يا عين” تشير إلى العين غير المغمضة. وهو ما يعيدنا دائما إلى مفردة “نظر”.

يقول المتنبي متفاخرا “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صممُ”،  و”يا مسهرني” حتى صباح، تختلط فيه أصوات الديكة في ما بينها.

كانت فيروز قد غنت من ألحان زياد ابنها أغنية تتألف من عبارة واحدة هي “يا ليل”، سلطنة طربية حقيقية لكن من نوع حديث قريب من الجاز.

سلطانة الطرب هذه المرة حملت جمهورها على جناحي فراشة لا تُرى. لا شيء يُرى في ذلك الليل.

هل يحتاج العشاق إلى النظر وهم يتبعون بشار بن برد في قوله “والأذن تعشق قبل العين أحيانا” و”إن الفؤاد يرى ما لم ير البصرُ”، كان بن برد أعمى.

والعرب تسمي الأعمى بصيرا. لقد ذهبت حاسة البصر إلى مكان آخر.

هناك قلة من البشر لا تزال تعيش في زمن الراديو، وهي قلة سعيدة حبتها الطبيعة بموهبة نضرة في الإنصات. أن تنصت إلى الصوت فتتخيل شكل صاحبته.

وليس للصوت مثيل في التعبير عن المشاعر. فهو الذي يضحك وهو الذي يبكي. في المقابل شغف الرسامون برسم العيون باعتبارها ممرا إلى الروح. العيون المبتسمة.

لقد قيل إن موناليزا التي رسمها دافنشي كانت تخفي سر جمالها في ابتسامتها الغامضة.

حين وقفت أمام تلك اللوحة الخالدة في متحف اللوفر بباريس لم أر تلك الابتسامة، بل رأيت مئات الابتسامات الساحرة على وجوه النساء اللواتي أحطن بي كما لو كنتُ سلطانا خارجا من كتاب ألف ليلة وليلة.

20