الشاعر العراقي علي جعفر العلّاق يكتب سيرته الذاتية

كتاب "إلى أين أيتها القصيدة" يصوّر كافة مراحل حياة العلّاق تصويرا فنيًا وينقل التفاصيل الدقيقة بلغة سلسة.
الثلاثاء 2022/11/01
شاعر يفتح سيرته لسيرة حقبة كاملة من الشعراء

بغداد - يمثل كتاب “إلى أين أيتها القصيدة” للشاعر العراقي علي جعفر العلّاق سيرة ذاتية تمتزج فيها خلجاته الشخصية بالواقع الجمعي الذي شهد أحداثا مفصلية جرت فيه متغيرات عاصفة، أثرت جميعها في تجربة الشاعر وفي علاقته بالعالم أيضا.

حرص العلّاق في كتابه، الصادر أخيرا عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، على تصوير مراحل حياته كافة تصويرا فنيًا ينقل التفاصيل الدقيقة بلغة سلسة تجذب القارئ إلى سردياتها المحبوكة بعناية.

ويقول العلّاق في مستهل كتابه عن مرحلة طفولته “حين فتحتُ عينيّ في قريتي الصغيرة تلك، كانت حواس الطفل الذي كنتُه، مفتوحة على عاقول البراري أو نكهة الحقول الفوّاحة. وكان فيه ميلٌ، لم يفارقه حتى الآن ربما، إلى مقْدَم الخريف، والبدايات الأولى للرعد والمطر وقطاف الثمار. ولا أزال أتذكرها بحنين شجيّ. بساطة أقربُ إلى الفقر، وتفاصيلُ عصية على النسيان”.

السيرة الذاتية الثرية والمتشابكة للشاعر يتقاطع معها نسيجٌ متنوع وساحر ومفجع كذلك من وقائع التاريخ الجمعي
السيرة الذاتية الثرية والمتشابكة للشاعر يتقاطع معها نسيجٌ متنوع وساحر ومفجع كذلك من وقائع التاريخ الجمعي

ويستدعي العلّاق كذلك ذكرياته مع الأشخاص الذين أثّروا في حياته، جاعلا منهم أبطالًا من لحم ودم، ممتلئين بالحياة، كما لو أنه ينقل ذكريات طازجة لم تمر عليها سنوات طويلة. يقول في أحد المقاطع “مازلت أتخيل ذلك المعلم، وكان اسمه (مالك) على ما أذكر، الذي ترك على دفتر الإنشاء مساحة من الفرح لا تنسى، وكنت حينها في الصف الخامس الابتدائي. وبعد سنوات التقيته مصادفة. كان قد كبر كثيرا بينما كنت في ذروة الشباب؛ أعمل في ذلك الوقت رئيسًا لتحرير مجلة الأقلام. حاولت مازحا تذكيره بنبوءته القديمة، لم يتذكّرْها بالطبع كما كنت أتذكّرها أنا، لكنه ابتسم بلطف، فرحا بما وصل إليه طالبٌ كان واحدًا من طلابه البارزين ذات يوم”.

ويحضر المكان في الكتاب دائما بوصفه حاملا للذكريات وللشخوص، وقد جعله العلّاق ضاجّا بالحياة، ممتزجا بإسقاطات اجتماعية وتاريخية، الأمر الذي أسهم في تلاشي المسافات بين الكاتب وقارئه.

ويقول الشاعر واصفا الحيّ الذي عاش فيه جزءًا من طفولته “كنا نسكن في شارع متواضعٍ يقع قريبا من منطقة (5)، كنا جزءا منها وطارئين عليها في الوقت ذاته. يجمعنا بها جوارٌ جغرافيٌّ قلق. مجموعة من البيوت البسيطة في أرضٍ خاليةٍ من المُشيّدات. أما طبقيًّا، فلم نكنْ قادرين على الانتماء إليها. كان يجمعنا بسكانها غبار النهار، وتفرّقنا عنهم أشياء كثيرة: الليل الخاصُّ، والملابس الأنيقة، والسيارات اللامعة، والورد الذي يسترخي على الأسيجة. كانت من مناطق بغداد الراقية، في الخمسينات والستينات”.

ويكتب الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري عن هذه السيرة على الغلاف الأخير قائلا “تستدعي الذات ماضيها بصورة حميمية، وتستدعي معه حالات انبثاقها المتعددة: ذكريات الطفولة، النزوح من القرية، تجربة اليتم بعد موت الأب، اكتشاف الشعر مبكّرًا، الارتباط الوجدانيّ بالأم، الاتصال بالمجلات الثقافية، وكتب الأدب والنقد، وجيل الستينات، الذي عايشه دون أن يتورّط في دعاواه ومواقفه الأيديولوجية، والسفر للدراسة وتوسيع الخيار الجماليّ للشعر بين دمشق وبيروت والقاهرة وصنعاء والعين وإكستر ولندن”.

ويضيف الوراري “يتقاطع مع هذه السيرة الثريّة المتشابكة نسيجٌ متنوّعٌ وساحرٌ ومفجع من وقائع التاريخ الجمعيّ الذي انطفأ في لحظة، وتريد الذات تأمُّله بما ينغلق عليه من بقايا صور وهوامش ومسارح قاسية”.

العلاق مبدع على نحو يغري بمتابعة نصوصه وقراءتها ومعاينتها والتفنّن في قراءتها وتحليلها

ويوضح أن العـلّاق كان يكتب بدهشة ويقظة وبأفقٍ بالغ الثراء، وأنه “ظلّ يراقب قصيدته وهي تتطوّرُ على الدوام إلى أقصى ممكناتها، وتقوده إلى العالم غير عابئ بإغواء السلطة وزعيق الأيديولوجيا في ذروة صعودها، وغير هيّابٍ إلا من الفنّ والجمال”.

والعلاق مبدع على نحو يغري بمتابعة نصوصه وقراءتها ومعاينتها والتفنّن في قراءتها وتحليلها، إذ يمكن قراءة تجربته المتقدّمة على أكثر من صعيد، وتقديم قراءات نقدية جديدة وجادّة تسلّط الضوء على مفاصل ومسارات أخرى ربّما لم تكشفها الدراسات السابقة، أو أنّها لم تثرها على نحو ما.

وأسهم الشاعر العراقي على نحو أصيل في التجربة الشعرية العربية الحديثة منذ ستينات القرن الماضي، وكان أحد فرسانها البارزين والمميزين، كما أنّه واكب الحركة النقدية العربية الحديثة المرافقة لهذه التجربة الشـعرية منذ تطلعاتها الأولى أيضا.

ولم تكن تقنية الكتابة وحدها هي ما فصل تجربة الشاعر عن أبناء جيله ومن سبقه من قامات شعرية عراقية مؤثرة استحوذت على الشعرية العراقية وصبغتها بأساليبها وتقنياتها وحتى لغتها. لكنّ العلاق امتاز بنظرته غير المؤدلجة إلى الحياة وبحياته الجدلية والمجربة مع اللغة وباللغة ما وضعه في مكان مختلف، كما نرى في المختارات الشعرية التي صدرت له مؤخرا.

وخط عبر تجربته اسما شعريا استثنائيا في مواجهة جيل من الشعراء العراقيين كانوا قد احتكروا سلطة الشعر كما لو أنهم وعده الأخير ونذكر منهم فاضل العزاوي، سامي مهدي، حسب الشيخ جعفر، سركون بولص، حميد سعيد، يوسف الصايغ وسواهم من شعراء العقد الستيني الذين ظنوا أن ثورتهم الشعرية ستأخذ مداها عبر عقود لاحقة من الزمن.

13