تراس تستسلم للهزيمة أمام وضع مضطرب

لندن - عجّلت خطة اقتصادية تشمل تقديم ميزانية مصغرة قُدمت في 23 سبتمبر الماضي وتتضمن مساعدات لنفقات الطاقة وتخفيضات ضريبية هائلة وغير ممولة، برحيل رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس التي أعلنت الخميس استقالتها بعد يوم عصيب اعترفت في نهايته بعدم قدرتها على إتمام مهامها.
وكانت تلك الخطة الاقتصادية قد أحدثت إرباكا شديدا وهوت بالجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوياته التاريخية وأثارت ذعرا في الأسواق وكادت تفضي إلى أزمة مالية لولا التدخل السريع من بنك إنكلترا.
ووجدت تراس نفسها في مواجهة عاصفة من الانتقادات حتى من داخل معسكرها حزب المحافظين الذي تعالت فيه أصوات تطالبها بالرحيل.
وبعد ستة أسابيع تقريبا من توليها مهامها كرئيسة للوزراء خلفا لبوريس جونسون، ألقت ليز تراس المنديل في إعلان الهزيمة أمام وضع مضطرب داخل حزبها وحكومتها يصعب معه الاستمرار.
وتأتي استقالتها بعد 44 يوما فقط في حكم شهد اضطرابات غير مسبوقة لتكون بذل أول رئيس وزراء يقضي أقصر حكم في التاريخ البريطاني الحديث، بينما سارع حزب العمال المعارض لالتقاط حالة الإرباك والتشرذم داخل حزب المحافظين، للدعوة إلى انتخابات مبكرة "فورا".
ويكابد حزب العمال المعارض لاستعادة السلطة من المحافظين الذين يهيمنون على السلطة منذ العام 2010 ولم تنجح المعارضة رغم نكسات سياسية واقتصادية للمحافظين في العودة للحكم، بينما تبدو الانتكاسة الأخيرة بسقوط ليز تراس سريعا، أفضل فرصة للعماليين.
ودعت تراس بعد إعلان استقالتها إلى إجراء انتخابات الأسبوع المقبل لاختيار خلف لها من المحافظين في بلد يشهد أزمة اقتصادية واجتماعية.
وقالت أمام مقر رئاسة الحكومة في لندن "في ظل الوضع الحالي لا يمكنني إتمام المهمة التي انتخبني حزب المحافظين للقيام بها"، مضيفة "لذلك تحدثت إلى جلالة الملك تشارلز الثالث لإبلاغه باستقالتي من رئاسة حزب المحافظين".
وتابعت ليز تراس التي شغلت منصب رئيس الوزراء لأقصر مدة في التاريخ البريطاني الحديث، أن تصويتا سيجري لاختيار خلف لها داخل حزب المحافظين "بحلول الأسبوع المقبل".
وبعيد ذلك، أعلن رئيس "لجنة 1922" المسؤولة عن تنظيم حزب المحافظين غراهام برادي أنه سيتم تعيين رئيس الوزراء المقبل بحلول 28 أكتوبر/تشرين الأول، موضحا أن التصويت سيشهد منافسة بين مرشحين اثنين على الأكثر في اقتراع سيكون أقصر بكثير من العملية التي حملت تراس إلى السلطة خلال الصيف. وقال برادي "ندرك جيدا الحاجة من أجل المصلحة الوطنية إلى حل هذه الأزمة بسرعة وبشكل واضح".
وحتى صباح الخميس، بدت رئيسة الوزراء متمسكة بالسلطة. وأكدت الناطقة باسمها أنها "تعمل" مع وزير ماليتها جيريمي هانت لإعداد خطتهما الاقتصادية للأمد المتوسط، غداة يوم كان كارثيا بالنسبة لها.
وقد اعترفت بأنها واجهت "يوما صعبا" الأربعاء، لكنّها شددت على ضرورة أن تركّز الحكومة جهودها على أولوياتها. وقال المتحدث باسمها إنها تريد من الحكومة التركيز بنسبة أكبر على "إنجاز الأولويات" و"بنسبة أقل على السياسة".
وصباح الخميس التقت تراس رئيس "لجنة 1922" بينما كانت لائحة البرلمانيين المحافظين الذين يطالبون برحيلها تطول تدريجيا.
وفي خضم أزمة غلاء المعيشة التي يعاني فيها ملايين البريطانيين من التضخم، يعود حزب المحافظين إلى انتخابات داخلية بحثا عن قائد جديد له سيكون الخامس في ست سنوات. وقد جرت آخرها في الصيف بعد استقالة بوريس جونسون على خلفية فضائح في مقر رئاسة الحكومة وفي الأغلبية.
وتطرح أسماء عدة مرشحين لتولي رئاسة الحكومة خلفا لتراس مثل ريشي سوناك وبيني موردونت الوزير المسؤول عن العلاقات مع البرلمان وحتى بوريس جونسون رئيس الوزراء الذي حلت محله في سبتمبر الماضي.
وارتفع سعر الجنيه الإسترليني الخميس قليلا مقابل الدولار بعد إعلان استقالة ليز تراس.
وحتى بعد إقالة وزير ماليتها وصديقها المقرب كواسي كوارتينغ ثم تخليها عن خطتها لم تنجح تراس في استعادة الثقة في صفوف حزب المحافظين. وتراجعت شعبيتها المنخفضة أساسا في استطلاعات الرأي. ومنذ ذلك الحين، أكدت أنها تريد البقاء في منصبها مع أن ذلك بدا مستحيلا.
وكان الأربعاء كارثيا إذ شهد استقالة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان ثم تصويت البرلمان على نص بدا وكأنه مواجهة بين النواب المحافظين.
وهذه العاصفة السياسية في إحدى القوى العالمية الكبرى في خضم الحرب في أوكرانيا أثارت ردود فعل على المستوى الدولي، فقد وعد الرئيس الأميركي جو بايدن الخميس بمواصلة "التعاون الوثيق" مع الحكومة البريطانية بعد استقالة تراس التي شكرها.
وقال في بيان "أشكر رئيسة الوزراء ليز تراس على هذه الشراكة"، مؤكدا أن الصداقة "طويلة الأمد" و"قوة" التحالف بين البلدين سيبقيان بلا تغيير.
من جهته، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه يأمل في أن تستعيد المملكة المتحدة "بسرعة" الاستقرار". أما الخارجية الروسية فقد سخرت من استقالة ليز تراس، مشيرة إلى أن هذا البلد "لم يشهد مثل هذا العار يوما".
وفي غودالمين البلدة الصغيرة الواقعة في ساري بجنوب لندن رحبت سالي شيرفيلد المتقاعدة التي لا تصوت لحزب المحافظين برحيل تراس. وقالت "أعتقد أنه من الأفضل لها أن ترحل" مع أنها كانت تفضل إجراء انتخابات عامة على أمل وصول المعارضة إلى السلطة.
أما كارمن هارفي براون وهي مدرسة متقاعدة من ناخبي حزب المحافظين، فقد رأت أن الوضع أصبح "فوضى تامة" وكان على تراس "الرحيل". وهي تعتقد أنها "غير مؤهلة لهذه المهمة".
ويسابق وزير المالية الجديد جيريمي هانت الآن الزمن لخفض الإنفاق بمبالغ تصل إلى عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية في محاولة لطمأنة المستثمرين وإعادة بناء سمعة بريطانيا المالية.
ويعاني ملايين البريطانيين من أزمة في تكلفة المعيشة في الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد إلى ركود وارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته في 40 عاما.
ونأى هانت بنفسه عن خوض سباق زعامة الحزب ومن المقرر أن يقدم ميزانية جديدة في 31 أكتوبر. وهذه الميزانية ستقلص على الأرجح الإنفاق على الخدمات العامة التي تظهر عليها بالفعل علامات ضغط. وقال مشرع بارز من المحافظين إن سوناك وموردونت مستعدان لإبقاء هانت في منصب وزير المالية.
السباق إلى داوننغ ستريت
وواحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل التي تواجه المحافظين هي كيفية انتخابهم زعيما جديدا، بعد أن اختار أعضاء الحزب البالغ عددهم 170 ألفا تراس على غير رغبة المشرعين المنتخبين في وستمنستر.
واشتد الخلاف بين مجموعات داخل الحزب حول اتجاه البلاد منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي السباقات الماضية، تم تقليص عدد المرشحين إلى اثنين من خلال تصويت عدد من النواب على مدار أسابيع، قبل أن يختار الأعضاء الفائز. ويقول كثيرون من المشرعين المحافظين إنه لا يمكن السماح بحدوث ذلك مرة أخرى.
قال أحد المشرعين "لا يمكن للأعضاء أن يكون لهم رأي، وعلينا حسم هذا الأمر"، فيما قال منظمون إن أي مرشح سيتعين عليه الحصول على دعم 100 مشرع وإذا تجاوز مرشح واحد هذا الحد بحلول الساعة الثانية بعد الظهر (1300 بتوقيت غرينتش) يوم الاثنين، القادم فسيصبح تلقائيا رئيسا للوزراء. وإذا بقي اثنان من المرشحين، سيقوم أعضاء الحزب بالتصويت عبر الإنترنت.
وستؤدي استقالة تراس إلى إجراء تصويت داخلي في حزب المحافظين بحلول نهاية الأسبوع المقبل، بينما يتزاحم على خلافتها أكثر من اسم مثل ريشي سوناك، فقد يكون وزير المال السابق المرشّح المفضّل لدى نواب حزب المحافظين، بعدما خسر أمام ليز تراس في المرحلة النهائية من عملية اختيار زعيم الحزب هذا الصيف.
ويُنظر إلى المصرفي السابق الثري البالغ 42 عاما على أنه يجسّد الشخصية المطمئنة في إطار عقيدة الميزانية التقليدية. وخلال الحملة، جادل مرارا وتكرارا بأنّ التخفيضات الضريبية غير المموّلة تخاطر بدفع التضخّم إلى مستوى غير مسبوق منذ عقود وتقويض ثقة السوق.
ورغم أنّ الحقائق أثبتت أنه على صواب، إلّا أنّه يواجه عرقلة كبيرة تتمثّل في أنّ العديد من أتباع بوريس جونسون ينظرون إليه على أنه خائن، بعدما أدّت استقالته في بداية الصيف إلى إسقاط رئيس الحكومة السابق.
ومن المرشحين المحتملين أيضا جيريمي هانت، حيث يبدو وزير المال الجديد الذي تسلّم منصبه الجمعة الماضي، كأنه من يتولّى زمام السلطة منذ ذلك الحين، في الوقت الذي أصبحت فيه ليز تراس ضعيفة.
وكان هو الذي أعلن الاثنين التحوّل الأساسي في المشهد عبر عكس جميع الإجراءات الضريبية لحكومة تراس تقريبا، ممّا تسبّب في حالة من الذعر في الأسواق.
ووزير الخارجية الأسبق الذي يبلغ 55 عاما يعدّ من الشخصيات ذات الخبرة ولكنّه غير كاريزمي. وأكد أخيرا لشبكة "بي بي سي" أنه لا يرغب في خوض سباق جديد على السلطة، بعد إخفاقين واجههما في هذا المجال في العام 2019 ثمّ هذا الصيف.
كما يتوقع أن تكون بيني موردنت التي كانت مرشّحة ضدّ ليز تراس لخلافة بوريس جونسون هذا الصيف من بين المرشحين، فيما كانت الوزيرة المسؤولة حاليا عن العلاقات مع البرلمان محبوبة من ناشطي حزب المحافظين في بداية الحملة.
وتُعرف وزيرة الدفاع السابقة البالغة 49 عاما بكاريزميّتها. وظهرت الاثنين أمام البرلمان حيث مثّلت تراس في مواجهة المعارضة ودافعت بثقة عن التغيير في الاتجاه الاقتصادي، مؤكدة أنّ رئيسة الوزراء "لا تختبئ تحت مكتب".
في الفترة الأخيرة، خرجت إلى الواجهة فرضية أن تنحصر المنافسة بين سوناك وموردونت في النهاية.
ويدور السيناريو التالي في الصحافة المحافِظة منذ الصيف، مثل "طائر الفينيق"، سيعود رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون أو "بوجو" ويفرض نفسه كملاذ واضح.
وبطل "بريكست" الذي حقّق انتصارا انتخابيا قويا في نهاية العام 2019، منح المحافظين غالبية غير مسبوقة منذ مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن الماضي ولكنه يواجه الآن الكثير من العراقيل.
ويتمثّل أحد هذه العراقيل في أنّ رحيله الذي أُجبر عليه بسبب سلسلة من الفضائح التي طالته، لم يحدث منذ فترة بعيدة، ما يحمله جزءا من المسؤولية عن الكارثة الحالية.
ويبقى من المنتظر معرفة ما إذا كان جونسون البالغ 58 عاما سيكون مستعدا لاستعادة قيادة الحزب قبل عامين من الانتخابات التشريعية، في الوقت الذي تُظهر فيه استطلاعات الرأي انتصارا ساحقا للمعارضة العمّالية.
وظهر بن والاس من بين المفضّلين في الحملة الأخيرة للوصول إلى رئاسة حزب المحافظين. كما أنّ وزير الدفاع الذي اختار عدم الترشّح من أجل تكريس وقته لأمن المملكة المتحدة، رأى اسمه يعود إلى الواجهة في الأيام الأخيرة ليكون شخصية محتملة تمثِّل وحدة الحزب، غير أنّ بن والاس الذي يبلغ 52 عاما يبدو أنه استبعد هذا السيناريو عندما أكد الثلاثاء لصحيفة "ذي تايمز" أنه يريد البقاء في المجال الدفاعي.
-