خطاب الصدق زمن الأزمة

بمقاربتها الحالية في معالجة ملف صندوق النقد الدولي استطاعت السلطات التونسية التصرف بأريحية والبقاء بمنأى عن الضغط العالي للشارع ولم تكن هناك موجات احتجاجية من شأنها أن تجعلها تغير حساباتها.
الجمعة 2022/10/21
زمن الأزمات

عندما يرتبك الخطاب السياسي زمن الأزمة يصبح هو نفسه جزءا من الأزمة.

وأمام الأزمة المركبة التي تمر بها تونس لا يبدو أن السلطة أو المعارضة اهتديتا إلى خطاب يخرج البلاد من دائرة الخوف والارتباك.

إن كانت كل الطبقة السياسية معنية فإن الرهان يبدو مضاعفا بالنسبة إلى من يمسك بمقاليد الحكم.

في العادة هناك بالنسبة إلى المسؤولين الحكوميين خطاب تمليه التوجهات الرسمية والتعليمات المسداة من الرؤساء إلى المرؤوسين في معالجتهم الإعلامية للمستجدات. ولكن تطبيق المسؤولين للتعليمات لا يضمن لهم أن الناس سيصدقونهم.

تقول التجربة إن مصداقية الخطاب السياسي مرتبطة ارتباطا وثيقا بعلاقة هذا الخطاب بالواقع.

ولكن درجة الصدق في الخطاب الرسمي تختلف ليس فقط حسب أهواء الممسك بدفة السلطة وإنما أيضا حسب قدرته على مكاشفة الرأي العام بالحقائق الصعبة. وذلك رغم أنه من المبادئ الأساسية للديمقراطية عدم إخفاء المعطيات والمؤشرات الأساسية عن الناخبين حتى إن كانت سلبية، وعدم التستر عن الأخطار والمطبات المتوقعة حتى وإن كان الحديث عنها ربما يخدم المعارضة أو يهز شعبية من هو في السلطة.

◙ خطاب السلطة في زلاته وخطاب بعض أطياف المعارضة في محاولتها كسب منافع دعائية آنية من الأزمة يجعلان منسوب الثقة في الطبقة السياسية في مجملها ينزل إلى مستوى لا يساعد البلاد على مواجهة التحديات القائمة

قد لا يكذب المسؤول ولكن عدم الكذب ليس بالضرورة مرادفا للصدق. فقد يصمت المسؤول عن كشف واقع الحال حتى لا يصدم عامة الناس قبل الأوان أو هكذا يعتقد.

لكن السهو عن الحقائق المزعجة مجازفة، فذلك قد يضعف مصداقية المسؤول. وهي أثمن ضمان له للقدرة على التسيير السلس للشأن العام.

وهذه مرتبة وسطى بين المكاشفة والتستر عن الوقائع يبدو أن الحكومة التونسية اختارتها في معالجتها لملف الإصلاحات والإجراءات التقشفية التي تنوي تطبيقها خلال الفترة القادمة في نطاق اتفاقها مع صندوق النقد الدولي.

وغياب التوضيحات الرسمية خلق فراغا ملأته أحيانا بيانات صندوق النقد وأحيانا أخرى تعليقات الخبراء والتخمينات والتسريبات الرائجة في وسائل الإعلام والمنصات الإلكترونية.

هناك العديد من المؤسسات الحكومية سوف تكون معنية مثلا بالإجراءات القادمة. فالدولة لن تستطيع مواصلة سخائها المضر بالصحة المالية للدولة. تعتبر الحكومة الموضوع حساسا اعتبارا لتداعياته الاجتماعية والنقابية وحتى السياسية، وهو لذلك ملف ترى أطراف السلطة أنه ما زال لا يحتمل النقاش المفتوح أمام الرأي العام.

ولكن الاتفاق المبدئي الذي أعلن عنه صندوق النقد الدولي حول منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار سوف يأذن برفع الستار عن الكثير. وليس من باب الصدفة أن يكون بيان صندوق النقد الدولي ليوم الخامس عشر من أكتوبر تضمن تأكيدا من المؤسسة المالية الدولية على أهمية “الشفافية” بخصوص حوكمة المؤسسات العمومية والإصلاحات المراد تنفيذها. يعني ذلك أن قوانين اللعبة تغيرت وربما تتسارع تغييراتها، حتى قبل أن تكون السلطات في أتم الاستعداد لذلك.

بمقاربتها الحالية في معالجة ملف صندوق النقد الدولي استطاعت السلطات لحد الآن التصرف بأريحية والبقاء بمنأى عن الضغط العالي للشارع. لم تكن هناك موجات احتجاجية أو حالات احتقان من شأنها أن تجعلها تغير حساباتها ومقارباتها.

ولكن الوضع كان مختلفا خلال أزمة الوقود وتلك المرتبطة بردود الفعل على غرق ودفن عدد من المهاجرين غير الشرعيين في جرجيس جنوب البلاد.

لم تكن الحكومة مستعدة لأزمة الوقود، وبدأت محاولة الطمأنة متأخرة بعد أن باغتتها النقابات بالإعلان قبلها عن أن مخزون البلاد من الوقود لم يعد يكفي لأكثر من أسبوع. تعذر على الحكومة طيلة أيام عديدة تدارك تأخرها.

بقيت وزيرة الطاقة تنفي وجود أي مشكلة في السيولة المالية أو نفاد للمخزون. وكانت في كل مداخلة تعد بعودة الأمور إلى نصابها في اليوم الموالي. ولكن اكتظاظ محطات البنزين وتهافت المواطنين على ملء خزانات سياراتهم كانا يكذبانها في اليوم الموالي.

◙ الأزمة بقيت تراوح مكانها في حلقة مفرغة
الأزمة بقيت تراوح مكانها في حلقة مفرغة

في المقابل كان مسؤولون آخرون يقدمون تفسيرات متباينة. أحدهم يعزو الأزمة إلى كثافة الحركة المرورية أمام نزوع المواطنين إلى التجوال نتيجة تحسن أحوال الطقس، وآخر يتحدث عن انخفاض مستوى المخزون الإستراتيجي من البنزين والمصاعب المالية التي تعانيها الشركة الحكومية لتوزيع الوقود نتيجة عدم إيفاء بقية المؤسسات الحكومية بديونها تجاهها.

فاقم تباين التفسيرات ارتياب المواطنين وأضعف منسوب الثقة في كلام الحكومة. وأصبح ذلك عاملا مساهما في الأزمة التي بقيت تراوح مكانها في حلقة مفرغة.. لم يكسرها سوى تحسن قدرة السوق على الاستجابة للطلب غير المسبوق على الوقود.

الجانب الأخطر في خطاب الأزمة تجلى في تعامل المسؤولين مع غرق مركب للمهاجرين غير الشرعيين في جرجيس وارتباك الأطراف الحكومية في محاولة تفسير ظروف دفن عدد من الضحايا التونسيين في حادثة الغرق قبل التعرف على هوياتهم في الإبان، أو هكذا تحدث فيسبوك.

كانت التفاصيل صادمة وزاد في سوء وقعها فشل عدد من الرسميين المحليين في إقناع الجمهور الواسع بأنهم صادقون في تعبيرهم عن الأسى تجاه الجوانب الإنسانية للكارثة.

ليس من باب الإنصاف أن يمتحن المسؤول في مشاعره إضافة إلى دقة أقواله. ولكن تونس تغيرت ولم يعد المنصب الرسمي للمسؤول يعني شيئا وقت الكارثة. أصبحت المنصات الاجتماعية تسبق المسؤول إن هو صمت عن تقديم المعلومة. وأصبح عدم تفاعله مع الرأي العام في أي رقعة من البلاد يؤول على أنه تعبير عن “احتقاره” للبسطاء. ترددت كلمة “حقرة” (وتعني الاحتقار باللهجات المغاربية) على الألسن كثيرا في جرجيس خلال الفترة الأخيرة.

التوضيحات بمعناها التقليدي لم تعد تفي بالحاجة في حد ذاتها. ما كان ينقصها هو الإحساس بأن المتحدث الرسمي يشعر حقا باللوعة التي تشعر بها أسر الضحايا حتى في مجرد تعداد المتوفين من الغرقى. أصبح سرد المعلومات الرسمية في مثل هذه الظروف نشازا.

والمفارقة هو أنه بقدر ما كان المسؤول يحاول الدفاع عن نفسه ويبرئ الدوائر الرسمية عن كل مسؤولية في الحادثة المأساوية بقدر ما كان يعمق البون بينه وبين الجمهور المشحون أصلا. تتالت ردود الفعل مثل كرة الثلج وبلغت حد قول أحد المعلقين بعد استجواب قناته التلفزيونية لعدد من الرسميين إثر الحادثة “على المسؤول الذي لا يعرف كيف يتحدث أن يصمت”.

في بعض الأوضاع ذات الطابع الدرامي يصبح الصدق انطباعا تعكسه طريقة التعبير عن المشاعر وليس فقط الدقة في المعلومات.

تتحمل السلطة ويتحمل مسؤولوها عادة وزر الخطاب الصادق في الأزمة، ولكن المعارضة ذاتها ليست في مأمن من الهزات الارتدادية إذا ما تخيلت أن الوقت ملائم لجني أرباح سياسية. وإذا ما تصرفت بانتهازية مفضوحة.

◙ درجة الصدق في الخطاب الرسمي تختلف ليس فقط حسب أهواء الممسك بدفة السلطة وإنما أيضا حسب قدرته على مكاشفة الرأي العام بالحقائق الصعبة

بعض أصناف المعارضة واصل خلال الأزمة اعتماد خطاب يحلق في الخيال، بعيدا جدا عن واقع المواطن، سواء لأن أصحابه طوباويون أم لأنهم لم يطووا بعد صفحة النقاء الأيديولوجي التي حددت أفكارهم ونحتت مواقفهم منذ اكتشافهم السياسة أيام الجامعة. ينتمي هؤلاء عادة إلى الأحزاب السياسية التي يصنفها التونسيون في خانة أحزاب “صفر فاصل”. أي تلك التي لا تبلغ نسبة التصويت لها في الانتخابات مستوى الواحد في المئة. ليس لهذه الأحزاب مصداقية كبيرة أصلا خارج نطاق منتسبيها الذين يكفيهم ترديد الشعارات.

لكن أحزاب المعارضة الأخرى التي تقول إنها ذات شعبية أوسع واصلت اقتراف نفس الأخطاء التي كانت السبب أصلا في قلة تعاطف الشارع معها. وهي التي ترى في نفسها بديلا للسلطة تضرب مصداقيتها بنفسها في الصميم لما تحاول مثلا تفسير ظاهرة الهجرة غير الشرعية في تونس بسياسات قيس سعيد منذ 25 يوليو 2021.

من البديهي أن قرارات وإجراءات الرئيس التونسي وطريقة حكمه لم تساعد على حلحلة أي من أزمات تونس. ولكن جذور هذه الأزمات تعود إلى أكثر من السنة ونصف السنة التي جمع خلالها سعيد معظم السلطات بين يديه. بل أن جذور بعض الأزمات تعود في الواقع إلى عقود طويلة سابقة.

خطاب السلطة في زلاته وخطاب بعض أطياف المعارضة في محاولتها كسب منافع دعائية آنية من الأزمة يجعلان منسوب الثقة في الطبقة السياسية في مجملها ينزل إلى مستوى لا يساعد البلاد على مواجهة التحديات القائمة.

ويبقى الصدق رغم المخاطر التي يحتويها أقصر طريق للسياسي كي ينجح في تجربة الحكم، وأيسر سبيل للمعارض كي ينال ثقة الناس فيه كبديل ديمقراطي ممكن.

ومن يفقد ثقة الناس مرة قد لا تمنحه الظروف فرصة ثانية للتدارك.

9