إعلان الإخوان اعتزال السياسة خدعة قديمة لا تنطلي على المصريين

ثلاثة تيارات تتصارع حول قيادة الجماعة بهدف تهديد النظام المصري.
الأربعاء 2022/10/19
عنف عالق في ذاكرة المصريين
 

تاريخ جماعة الإخوان المسلمين حافل باعتزال العمل السياسي ثم العدول عن هذا القرار، وهو ما يعتبره محللون أحد التكتيكات الثابتة لدى الجماعة عندما تشتد الضغوط عليها، لتعود في ما بعد أكثر قوة وتعنتا تجاه النظام المصري.

القاهرة - باتت جماعة الإخوان المصرية فعليًا منقسمة إلى ثلاثة كيانات سياسية، كل منها يطرح رؤى ومناهج وتصورات مختلفة في التعاطي مع الأوضاع الراهنة في مصر، لكن هذا لا يعني أن يصدق المصريون إعلان ما صار يسمى بتيار لندن عزمه اعتزال السياسة.

وتدعي الجبهات الثلاث أنها تمثل الجماعة والأكثر وفاءً لأدبيات حسن البنا مؤسس التنظيم الأم، وهي: مجموعة لندن التي يقودها إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد، ومجموعة إسطنبول بقيادة محمود حسين، ثم مجموعة التيار الثالث التي تشكلت قبل أيام قليلة، وتعبر عن الخط الكمالي، نسبة إلى المتشدد الراحل محمد كمال، وهي الأكثر عنفًا وتشددًا.

وأعلنت جبهة لندن أخيرا التخلي عن الصراع على السلطة والانسحاب من أي معارك عليها، فيما عارض الكماليون (تيار التغيير) على الفور هذا التوجه وتمسكوا بالعمل السياسي في مؤتمر عقدوه السبت الماضي في أحد فنادق إسطنبول، ودشنوا فيه حركتهم الجديدة.

لم يكتفِ التيار الثالث أو تيار التغيير أو الكماليون، وهم بقايا مجموعة قائد الجناح العسكري للجماعة محمد كمال الذي قُتل عام 2016، بالتمسك بالعمل السياسي، عكس جبهة لندن، والسماح لأعضاء التنظيم بالتغلغل في المشهد من خلال أحزاب أخرى، بل لم يستبعد هؤلاء اللجوء إلى خيار استخدام القوة والعنف لتحقيق أهدافهم في المرحلة المقبلة.

ثمة صفة متأصلة في جماعة الإخوان، وهي أنها ناكرة للجميل وسرعان ما تنتهز أقرب فرصة للانقلاب على من وفّر لها الأمان

وفي المنتصف بين جبهتي منير والكماليين تقف جبهة محمود حسين (إسطنبول) التي تتبنى نهجًا بين الفريقين، وتستنكر المرونة الزائدة التي أبدتها جبهة لندن، متوعدة بتعقب مؤيدي منير وأعوانه باعتبار أن ما يصدر عنه غير شرعي بعد قيام حسين بتجريده من منصبه.

وترفض مجموعة محمود حسين دعوات العنف ونهج الكماليين، والشروط المخففة التي طرحها منير لقبول الحوار والمصالحة مع النظام المصري، طارحة شروطا أكثر تشددًا، في مقدمتها إلغاء الأحكام القضائية ضد المحبوسين من قادة وعناصر الإخوان في مصر.

وضح من الكلمات التي أُلقيت خلال مؤتمر التيار الثالث (تيار التغيير) في إسطنبول أن تحركه ينبني على محاولة اكتساب نفوذ بالعزف على وتر رفض سلوك المهادنة الذي يتبناه تيار منير.

ويجد الكماليون أن الفرصة سانحة الآن لإعادة بناء كيان الإخوان المنهار الذي يعاني من الضعف والفقر المالي عبر اجتذاب الرافضين لمهادنة النظام المصري وعدم خوض الصراع السياسي.

وتسيطر رؤيتان على جماعة الإخوان حاليا، وهما على طرفي نقيض في التعاطي مع الشأن المصري، علاوة على رؤية ثالثة تقف في المنتصف؛ فهناك من يطلب المصالحة مقابل تجميد النشاط السياسي متجاوزًا الصراع على السلطة ومتبنيًا مخاطبة الرأي العام وتوجيه النصح للحكومة أو معارضتها سلميًا، مقابل من يعلن المفاصلة الكاملة ولا يستبعد العمل على تطوير نهج الخيارات العنيفة.

وقابلت الحكومة المصرية أكثر مبادرات جماعة الإخوان مرونة بالرفض، ومن خلال ردود الأفعال النخبوية والشعبية على دعوات المصالحة والحوار التي أطلقتها مجموعة إبراهيم منير تبين وجود شبه إجماع على لفظ الجماعة ومنع دخولها أي نشاط سياسي بعد الجرائم التي ارتكبتها.

وبعد إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي دعوة جميع الانتماءات والأطراف للحوار الوطني، ما عدا الإخوان، جرى التوافق بين الأحزاب المشاركة في الحوار على أنه لا عودة لجماعة الإخوان التي يُحاكم قادتها والعديد من عناصرها على خلفية ارتكاب جرائم إرهابية مثبتة بحقهم.

ولم ينبن الرفض على خبرة السنوات القليلة الماضية التي شهدت صعود الجماعة إلى السلطة وعزلها عنها فقط، وإنما انبنى أيضا على خبرة تجارب المصريين مع تنظيم الإخوان في مراحل حكم الرؤساء الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك، فضلا عن تصرفاته وتصوراته في الوقت الراهن التي لا تختلف كثيرا عما ساد في الماضي.

وتعكس تلك التجارب صفة متأصلة في جماعة الإخوان وهي أنها ناكرة للجميل ولا تفي بوعودها وسرعان ما تنتهز أقرب فرصة للانقلاب على من وفّر لها الأمان ومنحها المشاركة السياسية، وتعامل بحسن نية مع وعود قادتها المتعلقة بمزاعم عدم خوض الصراع على السلطة والاكتفاء بالعمل الدعوي، ففي كل المحطات تتخلى الجماعة عن تعهداتها المعلنة.

أخلّت جماعة الإخوان بوعودها للرئيس الراحل أنور السادات الذي اشترط لإخراج عناصرها من السجون عدم خلط الدين بالسياسة مطلقا عبارته الشهيرة “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”.

وسبق عمر التلمساني مرشد الإخوان الأسبق ما قاله إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد حاليا في إعلان عدم الخوض في السياسة والاكتفاء بالدعوة، وهو مجرد ستار أخفى الهدف الفعلي المتعلق بإعادة بناء التنظيم والعودة مجددًا أكثر قوة عندما تبدو الأجواء السياسية مناسبة.

وبعد أن اكتسب التنظيم القوة اللازمة لعودته إلى المشهد السياسي جحد التلمساني وقادة الجماعة ما قدمه السادات، حيث أطلق سراحهم وتحالفوا مع خصومه السياسيين من اليسار والجماعات الإسلامية الأكثر تشددًا وصولًا إلى اغتياله على يد متطرفين في أكتوبر 1981، الأمر الذي حاول القيام به مع الرئيس عبدالناصر في حادث المنشية خلال مارس 1954، بعد أن بدت مؤيدة له ولثورة يوليو 1952.

الحوار الوطني

وبعد أن منحها الرئيس الأسبق حسني مبارك حرية الدعوة وتأسيس الجمعيات مقابل دعمه في العلن، انقلبت عليه الجماعة وتحالفت مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عندما أسهمت بقوة في عزل نظامه عن السلطة.

ولم يعد الطيف المصري، السياسي والشعبي، يأمن جانب جماعة الإخوان بعد اكتساب خبرة طويلة معها، حيث كانت في كل مرة بعد أن تتلقى هزيمة وتقع في أزمة تزعم أنها سوف تبتعد عن الصراع السياسي، وسرعان ما تعود إليه أكثر شراسة، جاحدة جميل من مدوا لها يد العون.

ولا يحتمل الوضع الحالي في مصر تكرار السيناريو ذاته، خاصة أن التساهل في السابق مع الجماعة دفع المصريون ثمنا باهظا له، حيث فوت الانشغال بالصراع مع التنظيم الذي تغلغل في نسيج المجتمع الكثير من فرص التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.

ويجد النظام المصري الراهن نفسه في غنى عن إضافة عبء سياسي وأمني آخر في مرحلة حرجة يريد التفرغ فيها لاستكمال المشاريع التنموية التي بدأها دون منغصات إخوانية كبيرة.

رؤيتان تسيطران على جماعة الإخوان حاليا، وهما على طرفي نقيض في التعاطي مع الشأن المصري

وترفض الحالة المصرية العامة وجهَيْ جماعة الإخوان؛ الوجه الذي يبدي مرونة ويزعم الاعتدال ويعد بالتخلي عن الصراع السياسي والوجه الذي يتبنى التحريض والعنف، فكلاهما وجهان لعملة واحدة.

وتنظر النخب في مصر إلى الألاعيب الإخوانية على أنها أداة في الصراع الداخلي ضمن الجماعة وموجهة إلى داخل التنظيم، بهدف اكتساب شرعية القيادة وسحب البساط من تحت أقدام مكونات أخرى في الجماعة.

وتتعمد الجماعة بأجنحتها المتنافسة مواصلة الحراك وإطلاق الدعوات في اتجاهات مختلفة حتى لا يشجع سكونها وصمتها الناقمين عليها من داخلها على تحميل قادتها مسؤولية الهزائم والنكسات المتواصلة، فضلًا عن الحرص على إسكات أصوات تتهم القادة بالفساد المالي والإداري والأخلاقي.

وانتهى في مصر فصل عودة جماعة الإخوان إلى الحلبة السياسية، وصارت تواريخ التخلي عنها مكشوفة في أهدافها ومآربها، لذا تحاول الأجنحة الثلاثة المعلنة الهروب إلى الأمام حيال الداخل التنظيمي وبعض الأطراف الغربية.

وتحاول الجماعة، التي تيقن أغلب المصريين من أنها كيان مخادع متخصص في تلوين الجشع السياسي والعنف والربح الاقتصادي بألوان الدين، تلميع صورتها أمام قوى غربية معنية بها، والإيحاء لشبابها وقواعدها بأنها حاضرة ولها تأثير في المشهد السياسي المصري.

6