المنصف المزغني شاعر اليوميات الحزينة المتمردة

أحيانا يطيح الشعر بسلطة اللغة التي هي مادته وجوهره في الوقت نفسه من أجل أن يتماهى مع الواقع المر بسخرية سوداء تجمع بين الضحك والبكاء.
ذلك ما يفعله بخفة نادرة الشاعر التونسي المنصف المزغني. لقد تحول المشهد الواقعي إلى حفلة من المتضادات التي تمكّن الشاعر من التقاطها كما لو أنه يرسم شيئا لا يراه سواه.
شعر بين الضحك والبكاء
ربما ضحك الجمهور فيما كان الشاعر يبكي وحيدا في أعماقه. ما يهم الشاعر فعلا أن يُحدث زلزلة في القناعات الرتيبة ويربك علاقة ذلك الجمهور المستغرق بسكون ردود أفعاله.
"خروف
دخل البرلمان
قال ماع

فجاء الصدى
إج ماع".
تلك قصيدة قرأها المزغني عام 1985 في مهرجان المربد الشعري ببغداد. كانت مفاجأة بحمولتها السياسية الغاضبة التي اخترقت جدار اللغة لتضع كلمات قليلة على اللسان كما لو أنها هواء خشن جارح.
لا يحتاج المزغني إلى نظريات فائضة ليوضّح فكرته عن الشعر. إن قوة التحريض في قصائده تعبث باللغة لتكشف عن خلل في علاقة الناس بالواقع. فهل الناس قراء أم مستمعون؟ تلك علاقة يلعب بين خيوطها المزغني ليخلق عالمه الشعري مترامي الأطراف.
لا يصف الألم بل يخترقه
يرى الشاعر ما لا يراه الآخرون غير أنه حين يكتب نصه يذهب بالظاهرة إلى فضاء إنساني. تلك فكرته عن شعر يُكتب لا من أجل وصف الألم بل من أجل الاعتراف بما لا يجرؤ الواقع على كشفه.
يمكن اعتبار ما يكتبه المزغني شعرا سياسيا غير أنه شعر لا يرتبط بظاهرة مّا ويزول بزوالها. فهو يحمل شحنة تعبيرية تخترق الظاهرة من غير أن تخضع لشروط زمنها. ينأى المزغني بشعره عن التفاصيل ليهب الظاهرة بعدها الإنساني. وهو بذلك يكتب شعرا يصلح أن يُقرأ في كل زمان ومكان.
أحب الجمهور شعر المزغني في مختلف مراحله. وقد لا يكون سيئا لو قلنا إن ذلك الجمهور يفضّل سماع قصائده بصوته، ربما بسبب رغبته في رؤية إنسان يملك القدرة على أن يهب الشعر قوة صوتية غير أن المزغني يفضّل لو أن ذلك الجمهور قرأ قصائده ولم يكتف بسماعها.
ولد المزغني عام 1954 في صفاقس. تخرج من مدرسة ترشيح المعلمين عام 1974 بعد أن كان قد انتقل إلى تونس العاصمة عام 1970.
عمل في وزارة التربية ما بين عامي 1982 و1989. بعدها انتقل للعمل في وزارة الإعلام. أسس نوادي الشعر وأشرف عليها. إلى جانب ذلك فإنه عمل في الصحافة الأدبية لسنوات.
كتب مسرحيات وقصصا للأطفال إلى جانب الشعر الذي أصدر فيه كتبا عديدة. "عناقيد الفرح الخاوي" هو عنوان كتابه الشعري الأول الذي صدر عام 1981 كما صدر في طبعة صوتية "كاسيت" عام 1982.
كتب قصيدة طويلة بعنوان "عياش" صدرت طبعتها الأولى عام 1982. كما كتب رواية شعرية بعنوان "قوس الرياح" صدرت عام 1989. عاد ثانية ليكتب رواية شعرية بعنوان "حنظلة العلي". وكتب قصصا للأطفال ما بين عامي 1976 و1992.
لعب شعري باللغة
عُرف المزغني بإلقائه المميز وهو ما أثّر على صياغة قصائده في مرحلة مّا لتكون منسجمة مع الأداء الصوتي، جملا قصيرة مقفاة بمعان واضحة ومباشرة. لقد اكتسب المزغني شهرة على المستوى الشعبي بسبب ما احتوته قصائده من نقد سياسي شجاع وجريء كانت القصيدة العربية تفتقر إليه. وفي الوقت نفسه حرص الشاعر على بناء قصيدته فنيا بحيث كانت هناك دائما مفاجآت تنبعث من مراس ودراية عميقة في اللعب باللغة.
"هتفت
أنت المزغني؟

◙ الشاعر يرى ما لا يراه الآخرون غير أنه حين يكتب نصه يذهب بالظاهرة إلى فضاء إنساني
سمعت صمتي
فأضافت
أنت المنصف؟
فأجبت بأني أحيانا
قالت
متأكد؟
فأجبت بأني
فعلا متنكد
صاحت
وإذاً أنت الشا…..رع
فهتفت
وكيف عرفت/
بأني مزدحم هذي الساعة؟".
التحليق عن طريق المجاز الشعري
سيكون من الصعب القول إن المزغني اتّبع نهجا واقعيا في خطابه الشعري بالرغم من أنه غالبا ما يعالج ظواهر واقعية مستلة من الحياة اليومية. يقول لنا أفكارا نشعر بعد أن يصرح بها أنها كانت دائما على أطراف اللسان من غير أن نتمكن من احتوائها. فالكلمات وهي سر الشاعر ومصدر سحر الشعر تخوننا وتضع نفسها في خدمته. تلك فكرة تبسيطية عمّا يمكن أن يقوم به الشاعر.
يجعل المزغني الكلمات تحلم وهي تصف حياة يومية. لكلماته حياتها المستقلة بعيدا عمّا يمكن أن نفعله بها ونحن نحاول أن نسخّرها لخدمة أفكارنا المباشرة. فهو يصنع من
خلالها صورا لم نتمكن من رؤيتها بالرغم من أننا نعيش الحالة نفسها التي يعيشها الشاعر.
"صادفت في الطريق
امرأة جميلة القوام
قلتُ لها يا أنت يا جميلة القوام
لم تلتفت إليّ

حسبتها بكماء
سألت عنها شيخة في الحي
فأكدت لي
سمعها قوي
لكنها من كثرة الكلام
لم تعد تصغي إلى الكلام
إن شابه الكلام
أخطأتَ يا بني
فلا تقل لامرأة جميلة القوام
يا جميلة القوام".
تلك قصيدة بعنوان "نصيحة في السياسة". وما لا يراه الجمهور العادي من السياسة يراه الشاعر. يرى ماضيها وحاضرها ومستقبلها في الصمت الذي ينبغي ألاّ تتجاوز عتبته. شيء من الهجاء ينفع قبل أن يقرر المرء ما الذي يمكن أن يفعله بعد ذلك. يتحدث المزغني كما لو أنه يشير إلى واقعة تُعاش كل لحظة. حدث مستل من الواقع.
وهو كذلك غير أنه يقع في مكان آخر. ذلك حدث يقع كل لحظة يقف به الشاعر عند حدود رمزيته التي يمكن التعبير عنها بطرق مجازية مختلفة.
يحوّل المزغني أحداثا قد تقع لكل إنسان إلى أحداث شعرية لا تقع إلا لإنسان وحيد يمتلك صنعة خيالية لا يمكن تعلمها.
شاعر يدافع عن آمال شعبه
عام 2021 كتب المزغني قصيدة بعنوان "انقلاب" يقول فيها:
"سم ذاك الخطاب
سمه ما تشاء
سمه "جاء يوم الحساب"

سمه "ما يشاء المقام قرارا . وحينا جواب"
سمه ساعة من عذاب
وإن غابت التسميات وعمّ الضباب
ولم تلق بين القواميس أيّ جواب
سوى الطرح والضرب عند الحساب
فلا تترد وقل للسحاب
"أهذا انقلاب"
سيمطر منه الجواب
"وهذا انقلاب على الانقلاب".
تلك قصيدة سياسية مكتوبة بتقنية سريالية. هناك حدث سياسي مباشر قابله المتضررون الفاسدون بالرفض ووصفوه بالانقلاب “إنه انقلاب على الديمقراطية” وتلك كذبة تم الترويج لها ولكن الشاعر لم يجبهم بطريقتهم بل ذهب إلى عمليات الحساب التي جعلته يرى الحقيقة. إن رأينا في ما حدث انقلابا فإنه انقلاب على الانقلاب الذي حطم آمال التونسيين.
المنصف المزغني شاعر كثير الصلة بالشعب. لذلك وضع شعره في خدمة الحرية. حرية شعبه والدفاع عن كرامته.