التباكي على أطلال فلان وعلان

هشاشة حياة الإنسان العربي وثقافته المحطمة بحاجة ماسة إلى الاقتناع بأن الماضي يمثل درسا مفيدا ويجب الاستفادة منه في صناعة المستقبل.
السبت 2022/10/08
الحنين إلى الماضي حاجة إنسانية مفيدة

دارت في الآونة الأخيرة الكثير من حلقات الثرثرة والاستعراض على منصات التواصل الاجتماعي، أعادت إلى الأضواء أصداء الشخصيات السياسية التي حكمت البلدان العربية في العقود الأخيرة، وتدفق سيل من التعليقات الحماسية الممجدة والمعددة لـ”فضائلها”، إلى درجة أن أماني البعض تتعارض أحيانا مع قوانين الطبيعة وحقيقة موت تلك الشخصيات ولا أمل في عودتها إلى الحياة.

ليس هذا غريبا على أي حال، فالعديد من العوامل تفسر أسباب انتشار متلازمة “عبادة” “فلان وعلان”، بشكل كبير في المجتمعات العربية، فضلا عن أن الحنين إلى الماضي متلازمة إنسانية، مهما كان هذا الماضي لأنه سيصبح جميلا في عين الحاضر. ولو نظرنا إلى الأوضاع السياسية غير المستقرة والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، والحياة القاتمة والكئيبة لهذه المجتمعات، لوجدنا تفسيرا أكثر دقة لهذا التعبير العلني عن الحب والتقديس الشديد لتلك الشخصيات التي عاشت تلك المجتمعات عقودا تحت كنفها، حتى وصل الأمر ببعض الحلقات إلى حد “التأليه”.

يصعب أحيانا على المواطن العربي تجاوز الماضي الجميل بسبب غياب النظرة الإيجابية للحاضر، أو التشوُّق إلى المستقبل المشرق، خصوصا في ظل أنظمة حكم طائفية فاشلة، وواقع اجتماعي قاس ولا شيء مؤكد فيه ويبعث على الاستقرار الاجتماعي والاطمئنان النفسي، لذلك يحاول الناس أن يصنعوا هالة بطولية لتلك الشخصيات، لتسخيف الحاضر الذي يعيشون فيه، أو لرفع معنوياتهم ومواساة أنفسهم.

وبينما تصبح السياسة السائدة فاسدة والبلدان العربية ممزقة ومثيرة للانقسام والواقع يزداد بؤسا، تبرز أكثر قدرة أولئك القادة بشخصياتهم وقدرتهم السياسية على توحيد الناس حتى بعد وفاتهم، كما لو أنهم الرمز الذي يختصر قصة النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي شهدته بلدانهم، في الماضي الجميل، الذي يحاول الكثيرون إحياءه والتمسك به.

إلا أن الأهم من ذلك، هو أن هشاشة حياة الإنسان العربي، وثقافته المحطمة بحاجة ماسة إلى الاقتناع بأن الماضي يمثل درسا مفيدا ويجب الاستفادة منه في صناعة المستقبل.

قبل سنوات اقترحت إحدى المدن التي اختيرت عاصمة للثقافة الأوروبية، مسابقة على شكل سؤال للإجابة عليه بكتابة مقال يكمن في “كيف نخلص الحاضر من الماضي، وكيف ننقذ المستقبل من الحاضر” للأسف لم يتسن لي الاطلاع على نتائج تلك المسابقة الجميلة ولم أقرأ المقال الفائز، فلم تترجمه أي من وسائل الإعلام العربية. لكن تلك المسابقة التي وصلنا إعلان المشاركة فيها إلى تونس لم تغادر ذاكرتي على الرغم من مرور أكثر من عقد عليها. ويبدو من المفيد العودة إليها مثلما يعود أهلي في تونس متحسرين إلى الماضي وكأنه نوع من الحل لحاضرهم البائس. ولكي لا يتهمني البعض بالماضوية، فإن التونسيين ليسوا وحدهم من يحنون إلى الماضي، فأشقاؤهم الليبيون يفعلون ذلك أكثر، بينما حدث ولا حرج عن العراقيين بعد أن انهار بلدهم أمام أعينهم.

الحنين إلى الماضي أو “النوستالجيا” ليس مرضا وفق التصنفيات النفسية، لكنه حاجة إنسانية مفيدة، بيد أن يتحول الأمر إلى حاجة سياسية واقتصادية واجتماعية من أجل إعادة الماضي لتغيير الحاضر، هذا فوق طبيعة الزمن والتاريخ اللذين لا يمكن أن يعودا إلى الوراء.

20