مأزق الإعلام المصري: من الهجوم على قطر إلى الإشادة بـ"النظام الصديق"

القاهرة- تسبب التحسن السياسي الملحوظ بين القاهرة والدوحة مؤخرا في حرج بالغ لعدد من الإعلاميين المصريين ممن درجوا على توجيه انتقادات حادة للنظام القطري وقت القطيعة معه، حيث تحول أغلبهم إلى مَدْحه ليتناغموا مع الخط العام الجديد الذي ظهرت عليه ملامح إيجابية كانت غير مألوفة في السنوات التسع الماضية.
وحاول إعلام الإخوان استثمار هذا التحول وأذاع فيديوهات لمقدمي برامج، مثل عمرو أديب وأحمد موسى وخيري رمضان ومحمد الباز ولميس الحديدي ومصطفى بكري، تعرض مفارقات أشبه بالكوميديا الساخرة، وتمت إذاعة لقطات من الهجوم وأخرى من المديح، وهي حيلة تجذب المشاهدين وتفقد مقدمي البرامج المصداقية، لأن التحول بدا حادا من اتهام النظام القطري بالتآمر ودعم الإرهابيين إلى وصفه بالنظام الصديق.
وتخيم هذه المشكلة على أداء الكثير من وسائل الإعلام العربية، ومن بينها المصرية، عندما تكون قريبة من النظام الحاكم وتتبنى رؤاه كاملة ولا تحتفظ لنفسها بهامش ولو ضئيل من الموضوعية حيث تخضع تماما لحسابات النظام السياسية، ولذلك وجدت الكثير من وسائل الإعلام المصرية نفسها في مأزق عندما تغيرت العلاقات مع قطر، وظهر خطابها فاقدا للبوصلة المهنية.
◙ وسائل الإعلام المصرية فقدت جزءا كبيرا من المصداقية، في وقت يسيطر فيه الإحراج على من كان يهاجم قطر ثم تحول إلى مَدْحها
في المقابل كان التغيير في وسائل الإعلام القطرية تدريجيا ومحسوبا، وتجنبت أغلبيتها التحول المفاجئ، كما حدث في مصر؛ فشبكة الجزيرة تقدم موضوعات إعلامية لا تسيء إلى النظام المصري، غير أنها لم تتنازل عن استضافة شخصيات معارضة إخوانية وغيرها، وهناك مواقع إلكترونية ممولة من قبل قطر لا تزال تمارس هوايتها في مشاغبة النظام المصري، وهو ما يُشعر المتابع بأن المصالحة لم تحدث بعد.
وحافظ التلفزيون العربي وصحيفة “العربي الجديد” على هامش كبير من الخط السياسي المعارض للقاهرة، على الرغم من أن ملكيتهما تعود إلى النظام القطري، وتم نقل مقريهما من لندن إلى الدوحة مؤخرا، ويقدمان مضامين توحي وكأن العلاقات بين البلدين لم يطرأ عليها تحسن كبير.
وفقدت الكثير من وسائل الإعلام المصرية جزءا كبيرا من رصيدها في مسألة المصداقية التي تعد من أسس التكوين المهني لأي محطة أو صحيفة أو موقع. وصار إعلاميو الأمس، وكل من كان يهاجم النظام القطري ثم تحول إلى مدْحه، في نظر الجمهور أشخاصا غير مرغوب في رؤيتهم أو الاستماع إليهم.

◙ شبكة الجزيرة تقدم موضوعات إعلامية لا تسيء إلى النظام المصري، غير أنها لم تتنازل عن استضافة شخصيات معارضة إخوانية وغيرها
ويتطلّب التحول من النقيض إلى النقيض تمهيدا ومبررات ومكاشفة قبل أن يبدو الإعلامي “المتحول” أداة في يد جهة ما، حتى لو كانت هذه الجهة بلده وموطنه ونظامه الحاكم؛ فالناس لا يستسيغون التحولات المفاجئة، وتزداد المأساة إذا تمت إتاحة المواد الإعلامية على مواقع التواصل وامتلاك المتابعين المحترفين وغيرهم قدرة عالية على “الفوتو شوب” وتركيب لقطات بجوار بعضها البعض لتُظهر عمق التناقض ومأساته.
وعزفت وسائل إعلامية تابعة للإخوان على الأوتار المصرية – القطرية الجديدة لأنها تعلم مدى تأثيرها على الجمهور، وتجاهلت تماما غياب المصطلحات القاسية التي كانت تستخدمها الدوحة في إعلامها، كأن التحول لم يشملها ويقتصر على القاهرة فقط، وهي نقطة لم يتم التركيز عليها من جانب الإعلام المصري، فقد كان يستطيع أن يوظفها ويؤكد أن التغيير حدث على الجبهتين، ولو بنسب متفاوتة.
ويقول خبراء إن تبعية الإعلام المصري للحكومة -وهي تبعية شبه تامة- أدت إلى حدوث هذه الفجوة؛ فهي لم تقبل أن تسمح لبعض الوسائل والإعلاميين بتقديم معالجات مهنية يمكن أن تنتقدها وتعترض على سياساتها تحسبا لما يصيب العلاقات العربية – العربية من انفعالات سريعة، وقد وجهت اتهامات خطيرة إلى كل من يبدو نقده للقاهرة في صالح الدوحة.
وأفضت التطورات الكبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي إلى حصول طفرة إعلامية لافتة، وأصبح من السهل استرجاع أرشيف كل صحافي والقيام بمراجعات دقيقة لخطاب أي إعلامي، وهي إشكالية تربك أصحاب المواقف الداعمة للنظام وتخضعهم لمقارنات حرجة بين ما كان وما يحدث الآن، لأن بعض الأنظمة لا تدرك أن سيطرتها التامة على وسائل الإعلام بقدر ما تظهر هيمنتها عليها يمكن أن تخفض مستوى المصداقية فيها إلى الحد الأدنى.
وتدق الحالة المصرية مع كل من قطر وقبلها تركيا جرس إنذار، حيث تؤكد أن تحويل الإعلام إلى أداة سياسية بلا حرفية وتسير في خط واحد يمثل خطرا كبيرا على الدولة والإعلام نفسه، وأن عدم إتاحة الفرصة للآراء المعارضة سوف يتحول إلى مشكلة في اللحظات الفارقة التي تتغير فيها العلاقات بين الدول.
◙ إعلاميو الأمس، وكل من كان يهاجم النظام القطري ثم تحول إلى مدْحه، صاروا في نظر الجمهور أشخاصا غير مرغوب في رؤيتهم أو الاستماع إليهم
وأفقدت الرؤية الأحادية في غالبية وسائل الإعلام المصرية الحكومة القدرة على المناورة السياسية في الكثير من الملفات الداخلية والخارجية، وأبعدتها عن استثمار هامش المعارضة لها في تعظيم مكاسبها في بعض القضايا ولفتت نظرها إلى ما يمكن اعتباره عطبا في بعض التصرفات كان يمكن تلاشي الخسائر الناجمة عنه.
ولم يستفد إعلاميو مصر من مأزقهم مع قطر واندفع عدد كبير منهم نحو الإشادة بنظامها حاليا، ولو على استحياء، وقد يكررون الخطأ نفسه بطريقة عكسية، بمعنى أن هناك ملفات شائكة لم تُحسم نهائيا، وقد تتعرض العلاقات السياسية لنكسة جديدة إذا لم تحدث تسوية عاجلة، أو تمسكت الدوحة بهامش من المعارضة بما يسبب حرجا للقاهرة، وقتها سيكون الإعلام المصري في موقف أشد حرجا، لأنه لم يحتفظ بمساحة تمكنه من العودة بسلاسة للتعامل مع نظيره القطري.
وأسهمت المهنية التي يتمتع بها إعلام قطر في فضح الخلل لدى الجانب المصري، وهي قضية لا علاقة لها بالحرية السياسية أو درجة الديمقراطية هنا أو هناك، لكن على صلة وثيقة بالتوظيف الدقيق لكل وسيلة إعلامية، ما جعل الدوحة توجه ضربات إعلامية موجعة للقاهرة أزالت بموجبها هوة تاريخية سابقة في سنوات قليلة، وهو ما يمكن عده من أهم الدروس التي يجب أن يستوعبها الإعلام المصري، إذا أراد عدم الوقوع في فخ آخر مع دولة أخرى في ظل تقلبات السياسة العربية المتسارعة.