الإعلام المصري في مهمة غير تقليدية.. التمهيد للأسوأ

التحول من تجميل الصورة إلى تهيئة الناس لمستقبل صعب ينزع المصداقية.
الثلاثاء 2022/09/20
"لو اللي فات لطيف اللي جاي مخيف"

لم يعتد الجمهور المصري من الإعلام المحلي أن يصدّر له صورة متشائمة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، لكن بعض الأصوات الإعلامية بدأت مؤخرا تبعث برسائل سلبية، وهي في حقيقة الأمر واقعية، بحكم الظروف الصعبة التي تواجه الحكومة في سبيل إرضاء الشارع الممتعض من غلاء الأسعار والخدمات.

القاهرة - صارت الرسائل القاتمة بشأن ما سيحدث خلال الفترة المقبلة ظاهرة في بعض وسائل الإعلام المصرية، ولا تكف منابر عديدة عن التحدث في النواحي الاقتصادية بشكل لا يبعث على التفاؤل، وأصبحت تخاطب الشارع بلغة الترهيب والتحذير من سوء الأوضاع، داعية المواطنين إلى التأقلم مع الأزمات التي سيتعرضون لها، والتي ستطال الجميع.

من هؤلاء، الإعلامي عمرو أديب مقدم برنامج “الحكاية” على فضائية “إم.بي.سي مصر”، الذي قال قبل أيام “لو اللي (الذي) فات لطيف اللي جاي مخيف، واللي يقول غير كده يبقى بيضحك عليك، لأن كلنا رايحين في سكة سيئة، ولازم نكون صرحاء معاكم ونقول لكم إن القادم أسوأ”.

وهي نفس النبرة التي تحدث بها الإعلامي أحمد موسى مقدم برنامج “على مسؤوليتي” على فضائية “صدى البلد”، والذي أشار إلى أن مصر في طريقها إلى مرحلة بالغة الصعوبة، وعلى الناس أن يستعدوا لذلك جيدا.

أيمن منصور ندا: المطلوب من أي منبر إعلامي ألا يبالغ، فلا يهوّل ولا يجمّل

وبلغت درجة التمهيد للأسوأ مع الإعلامية لميس الحديدي، مقدمة برنامج “مع لميس” على فضائية “أون”، إلى حد تأكيدها أن مصر والعالم يتجهان ناحية إعصار جراء التوقعات السلبية للاقتصاد المحلي والدولي، داعية الرأي العام إلى تقبل فكرة المزيد من الإجراءات القاسية ومن بينها تحرير سعر صرف الدولار تماما، وبالتالي زيادة الأسعار، لأن الحكومة لم تعد تستطيع دعم الجنيه المصري أكثر من ذلك.

وما يثير مخاوف الجمهور أن الإعلاميين الذين صاروا يبعثون برسائل سلبية عن الأوضاع مستقبلا قريبون من دوائر حكومية، أي أنهم لا يتحدثون من تلقاء أنفسهم، ربما بناء على معلومات أو توجيهات في محاولة لتهيئة الرأي العام للتعامل مع المستجدات، إذا أرادت الحكومة اتخاذ المزيد من الإجراءات الاقتصادية الصعبة.

واستقبل فكري محمد، وهو موظف ورب أسرة يعيش في القاهرة، هذه النوعية من الرسائل بحالة من اليأس والإحباط، مبررا موقفه بأن الإعلام اعتاد تجميل الصورة، وعندما يتحول بشكل جذري إلى توصيل رسائل سلبية، والتلويح بأن القادم أسوأ، فإن ذلك يثير الكثير من المخاوف، طالما أن الذي دأب على بث التفاؤل هو من يتنبأ بالخطر.

وقال فكري في حديثه لـ”العرب” إن “الكثير من وسائل الإعلام لم تكن صادقة طوال الفترة الماضية عندما أوهمت الناس بأن الواقع أفضل، ونحن في مأمن عن باقي دول العالم، وكانت تقوم بتخدير الناس، واليوم يبدو أنها لم تعد قادرة على هذه المهمة أمام عدم واقعية ما تسوق له من إيجابيات بعدما ظهرت ملامح المعاناة التي يعيشها الناس”.

ويوحي المشهد الراهن في الإعلام المصري بأن هناك دورا لكل مذيع بشأن كيفية إقناع الجمهور بصعوبة الأوضاع الراهنة، حيث أصبحت بعض البرامج الشهيرة تستضيف خبراء ومتخصصين يتحدثون بأريحية عن التوقعات السلبية وأسبابها، وإلى أي درجة ستؤثر على الشارع، ومتى يمكن إصلاح الأحوال، وما هو المطلوب من الناس.

هناك مواقع إخبارية تركز بشكل دوري على الصعوبات التي يعيشها العالم جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وإلى أي درجة أصبح مواطنو الدول الغربية أنفسهم يعانون من غلاء المعيشة وارتفاع أسعار السلع والخدمات، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على الأوضاع في مصر، أو أي دولة أخرى تواجه نفس الظروف.

ذكر (محمد . ع)، وهو صحافي بإدارة موقع إخباري شهير، أن هناك توجيهات من إدارة الموقع الذي يعمل فيه بالتركيز على الأوضاع المعيشية والاجتماعية والاقتصادية في دول كُبرى ومقارنتها بالأحوال في مصر، وبالتالي يكون الجمهور على قناعة بحتمية تحمل الصعوبات المستقبلية، وما يمكن أن تقدم عليه الحكومة من إجراءات كأمر لا مفر منه، في ظل الأوضاع السيئة التي تواجه الدولة.

وأوضح لـ”العرب” أن تمهيد الإعلام للأسوأ يستهدف تهيئة المواطن نفسيا واجتماعيا لما هو قادم ورفع العبء عن الحكومة، وهذا جزء من إستراتيجية إعلامية بالتوازي مع نشر الإنجازات، لافتا إلى أن “تصدير الإيجابيات فقط يزيد الضغوط على دوائر صناعة القرار، لأنها لن تستطيع الخروج من الأزمات طالما لم يتهيأ الناس للخطر”.

إعلام بعضه يعتمد على التلقين
إعلام يعتمد على التلقين

لكن التحول في سياسة الإعلام من تجميل الصورة إلى تهيئة المواطنين للمستقبل الصعب قد يفقد المنابر المصرية ما تبقى من مصداقيتها، فلم تعد قادرة على السير عكس الاتجاه أكثر من ذلك، حيث دأبت على بث التفاؤل ونفي وجود أزمات حتى شعر الناس بأنهم يعيشون في واقع خيالي، ولم تعد وسائل الإعلام قادرة على القيام بنفس الدور الذي كانت تؤديه حول ثقافة الطمأنينة حيال المستقبل لتجييش الرأي العام خلف الحكومة لإدراكها صعوبة تحقيق هذا الأمر.

أكد أيمن منصور ندا أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن المطلوب من وسائل الإعلام أن تُحدث التوازن بين الإيجابي والسلبي، وتتعامل بواقعية، لا أن تهيئ الجمهور لسيناريوهات مستقبلية صعبة، لأن إحدى مهام الإعلام أن يبث الأمل في نفوس الناس، لا أن يصيبهم بإحباط، لأن تصدير التشاؤم يضر بالإعلام والجمهور وصانع القرار.

وأشار لـ”العرب” إلى أن مشكلة الإعلام المصري أن بعضه يعتمد على التلقين، كأنه يعطي للجمهور دروسا ولا يضع حلولا للمشكلات، والمطلوب من أي منبر إعلامي ألا يبالغ، فلا يهوّل ولا يجمّل وينقل الصورة بواقعية من خلال خبراء يقدمون رؤى تحليلية ناقدة، لا إثارة الجمهور حتى يكون مصدر ثقة في المعلومة وطرق العلاج.

وكان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قد دعا المؤسسات الإعلامية في وقت سابق إلى رفع الروح المعنوية للمصريين بالإشارة إلى الكم الهائل من المشروعات التي تفتتحها الدولة، وكيف نجحت خطة الحكومة في إنقاذ البلاد من الهزات الاقتصادية، وعلى الجمهور ألا يكون قلقا من الأوضاع الصعبة التي تعاني منها بلدان
كبرى.

وتؤكد الرسائل الراهنة للإعلام المصري أنه بدأ يتعامل بواقعية بعيدا عن الأحلام الوردية التي كان سببا في أن يعيشها الجمهور لأجل الاصطفاف خلف الحكومة في الصواب والخطأ، ولا تخلو بعض الرسائل من محاولات حكومية ليتأقلم الناس مع التحديات المستقبلية، لأن التمادي في طمأنة الشارع بشكل بعيد عن الواقع يجعل دوائر صناعة القرار قلقة من اتخاذ إجراءات مغايرة للحقيقة لتكون الخسائر فادحة.

16