في المكانة الإستراتيجية للقهوة في تونس

بدأت مخاوف التونسيين من أن يحرموا من مادتي القهوة والسكر تتبدد بعد أن بدأ توزيعهما يعود إلى نسقه الطبيعي أو يكاد، وإن لا زال اضطراب توزيع المواد الغذائية الشغل الشاغل للكثير من التونسيين.
خلال الأيام الماضية أثار احتمال نفاد القهوة وصنوها السكر من الأسواق شعورا لدى البعض يماثل الشعور بأن نهاية العالم على الأبواب.
يقول الخبراء إن تونس تحتاج إلى 30 ألف طن من القهوة حصة المواطن الواحد منها 10 غرامات يوميا. لتحلية جرعات القهوة يحتاج إلى ألف طن من السكر في اليوم الواحد، فالتونسي لا يطيق شرب القهوة مرة. ولا فائدة في إقناعه بأن عادته تلك مضرة بالصحة.
تقول حسابات هؤلاء الخبراء إن التونسيين يحتسون مليوني فنجان قهوة في اليوم الواحد.
لا أدري إن احتسب الخبراء في تقديراتهم فناجين القهوة سادة الثلاثة التي أتناولها شخصيا كل يوم، ولكنني أعتقد أنهم أخطأوا العد. أظن أن هناك على الأقل ضعف ذلك من جرعات القهوة (سواء كانت في فناجين أو كؤوس من الورق المقوى) توفرها المقاهي والبيوت للتونسيين كل يوم.
فسّر ديوان التجارة، وهو المؤسسة الحكومية التونسية التي تُمارس احتكار توريد القهوة والسكر والشاي ومواد أخرى، بأن فقدان القهوة من الأسواق ناتج عن بطء في الإجراءات الجمركية لا غير. إنها البيروقراطية الملعونة وليس عجز الدولة عن الدفع المسبق كما زعم البعض.
برّر المتحدث باسم ديوان التجارة احتكار الدولة لتوريد القهوة بأنه يعود إلى رغبتها في تأمين المنتجات "الإستراتيجية" توريدا وتوزيعا.
الأهمية الإستراتيجية للقهوة في تونس هي من الأهمية الإستراتيجية للمقاهي التي تبيعها. وفي اللهجة العامية التونسية يسمي الناس المقهى “قهوة” بعد أن اندمجت المادة مع المكان الذي يحتضنها.
المقاهي في تونس تجمع كل أفراد المجتمع كل يوم. يلتقي فيها الأصدقاء والخلان الباحثون عن دقيقة راحة بعيدا عن المنغصات.
وفي المقاهي يجتمع أصحاب المشاريع لمناقشة أفكارهم. وكذلك في المقاهي يلاقي الشاب حبيبته ليقنعها بأنه يريدها رفيقة دربه.
يلتقي في المقاهي الناشطون السياسيون إذ يخططون للمرحلة القادمة. وليس سرا أن كافة الأنظمة العربية تقريبا كانت دوما تعتمد على متابعة مخبريها للنقاشات السياسية في المقاهي لتحدد اتجاهات الرأي العام إلى أن جاء فيسبوك ليضيف إليها مرآة جديدة.
تستجيب المقاهي لكل الميزانيات. هناك المقاهي المتواضعة في الأحياء والأزقة القديمة وهناك المقاهي الشيك في الضواحي الراقية للعاصمة. يختلف ثمن القهوة ولكن الكل يجد كرسيا شاغرا في أي وقت من النهار.
عظيم وتاريخي أن تعترف السلطات التونسية بأن القهوة مادة إستراتيجية.
لا يهم إن كان تصرفها الاحتكاري هو الذي أدى أصلا إلى اضطراب التزود بهذه المادة. المهم هو اعترافها بمكانة القهوة وقيمتها الاعتبارية كركيزة من ركائز الأمن القومي للبلاد.
مثلما تونس حليف إستراتيجي غير عضو في الناتو، جدير بالقهوة أن تكون مادة إستراتيجية يحتكرها ديوان التجارة.
لم أكف يوما عن الاعتقاد بأن تاريخ البشرية ينقسم إلى فترتين أساسيتين: فترة ما قبل القهوة وما بعدها.
نحمد الله أن فقدان القهوة لم يدم طويلا فذلك كان سيعود بالتونسيين إلى ما قبل التاريخ.