"مبدعون خالدون".. إحياء لذاكرة التشكيل ورصد لتحولات الفن

تزخر الساحة الثقافية في مصر بأسماء رائدة في الفن التشكيلي استطاعت أن تصنع لنفسها تجربة خالدة، لكنها تمكنت أيضا من التأثير في أجيال ناشئة وكان لها دور كبير في رسم ملامح حاضر الفن التشكيلي ومستقبله. لهذا وجد معرض "مبدعون خالدون" الذي يسعى للوقوف على سيرة هؤلاء المبدعين والاطلاع على أعمالهم وأعمال تلاميذهم المتأثرين بهم.
القاهرة - لا تنفصل حركة التشكيل في مصر عن الحركة العالمية، حيث يتبع الفنانون المصريون المناهج الحديثة ويواكبون التطورات السريعة في هذا المجال، ويخوضون التجارب المتنوعة للتصوير والنحت وفق مختلف المدارس الفنية الكبرى، لكنهم أيضا لا يتخلون عن انتمائهم وهويتهم الثقافية والفنية التي جعلت من الفن المصري عامة محط الدراسات الأكاديمية وجذبت الأنظار إليه عبر العصور.
واحتفاء بالعشرات من المبدعين في الفن التشكيلي، ينظم أتيليه العرب للثقافة والفنون، بفرعيه، غاليري ضي المهندسين والزمالك، معرض “مبدعون خالدون.. روائع من الفن المصري المعاصر” للعام الرابع على التوالي.
وهو معرض يكرم كل عام واحدا من رواد الحركة التشكيلية بينما يسلّط الضوء على تجارب فنانين اهتموا برصد التحولات البشرية ومواضيع ثقافية ودينية واجتماعية، وبعضهم عاد إلى الحضارة المصرية القديمة ليعيد تصورها بناء على انتمائه للعصر الحالي بكل الاختلافات الفكرية والحضارية.
ويعدّ المعرض الأول من نوعه في تاريخ الحركة التشكيلية المصرية، وبات طقسًا سنويًا يبدأ به الغاليري موسمه، وشهدت الدورة الجديدة توسعًا في استضافة طيف كبير من الفنانين المصريين، وتشمل الأعمال المشاركة تنوعًا في مجالاتها الإبداعية، من تصوير ونحت وخزف، وكذلك في التنوع في الأجيال، ما يجعل الزائر أمام صورة مكثفة لتاريخ طويل من الحراك الفني.

ويستمر المعرض هذا العام من الثالث من سبتمبر الجاري إلى آخر الشهر نفسه، ويحوي 100 لوحة من 100 فنان مصري من الراحلين الذين تركوا أثرا كبيرا في الحياة والحركة الفنيتين.
وقال الناقد التشكيلي هشام قنديل إن المعرض يعتبر “استهلالا رائعا لمعارض ضي لهذا الموسم وإحياء لذاكرة الفن التشكيلي المصري، فبعد رحيل الفنان تبدأ اللوحة حياتها الخاصة لتؤكد خلوده وتعيد نقش إبداعه على جدران المعارض وفي الذاكرة الجمعية للشعب الذي رسم ناسه وكشف له الأقنعة”.
وتابع “هذه الدورة مختلفة من كل الوجوه، سواء من حيث الكم أو الكيف، ومن أبرز سماتها في هذا العام مشاركة أعمال الفنان الكبير الدكتور ممدوح عمار أحد رموز الحركة التشكيلية المصرية بصفته ضيف الشرف، وستكون أعماله الثمانين موزعة بين ضي المهندسين وضي الزمالك”.
وأضاف قنديل أن المعرض “يستعرض رحلة ممدوح عمار الكبيرة التي أثرت الحركة التشكيلية في مصر وألهمت الكثير من أجيال المبدعين الذين تتلمذوا على يديه”، مشيرا إلى أن ممدوح عمار من المبدعين الكبار الذين قدموا لوحة مصرية أصيلة تتكئ على الموروث الشعبي وتفاصيل الحياة في مصر، من دون أن يتنكر لأساليب الحداثة الفنية العالمية.
وتابع أن ممدوح عمار ظل يبدع لأكثر من نصف قرن من الزمان في الرسم والتصوير والغرافيك بلغته الخاصة الفريدة التي يمتزج فيها بناؤه الهندسي المعماري بحسه العفوي التلقائي، إلى أبعد مدى، مع التمتع بروح فكرية تناقش كل الإشكالات الإنسانية الحديثة والقضايا المصيرية الكبرى دون افتعال أو تصنع.
وأشار قنديل إلى أن ممدوح عمار فنان مصري شديد الخصوصية آثر أن يكون مرسمه في منطقة المنصورية الهادئة بعيدا عن ضوضاء القاهرة، لأنه كان يريد أن يرى الصورة هناك أكثر وضوحا عن القاهرة التي أحبها وأحبته في موالدها وأفراحها وحاراتها الشعبية المسكونة بالمجاذيب والدراويش، متمسكا بمصريته شديدة الخصوصية المحلية.
ويعدّ ممدوح عمار رائد الواقعية الحالمة والسريالية الملموسة، ولد عام 1928 في الريف المصري وتحديدا في محافظة البحيرة، وفي كنف عائلة عريقة وجاءت أعماله نتاج مخزون ثقافي وفكري واسع.
التحق بكلية الفنون الجميلة في مصر 1948 وتخرج فيها بدرجة امتياز عام 1952، ونال دبلوم فن الحفر من جامعة بيكين في الصين، ونال دبلوم في فن الجداريات والتصوير من الفنون الجميلة في العاصمة الفرنسية باريس، ونال دبلوم في فن التصوير من أكاديمية روما العليا في إيطاليا.
وأقام الفنان العديد من المعارض الفردية والجماعية في مصر والعالم، وله مقتنيات في متاحف وأماكن رسمية، خاصة في مصر والعالم، وتوفي ممدوح عمار عام 2012 تاركا لمصر وللبشرية إرثا ثقافيا وتاريخيا.
ويضم الجناح الخاص به في معرض “مبدعون خالدون” لوحات فنية من أعماله المتميزة التي تكشف مراحل إبداعه منذ رحلة الصين حتى دواوين القاهرة وعالم السيرك، وتمتد إلى نصف قرن من الزمان. وبالإضافة إلى أعمال عمار تحتوي قاعة ضي الزمالك على اثنين وعشرين معرضا شخصيا مع جناح خاص لكل فنان راحل.
ومن أبرز هذه الأجنحة جناح الفنان زكريا الزيني، وجناح الفنان الراحل سيد عبدالرسول، وأجنحة أخرى للفنانين عمر النجدي ومصطفي أحمد وأحمد نبيل سليمان وجمال قطب وعبدالرحيم شاهين وعطيات سيد وعبدالعزيز درويش وصبري عبدالغني ومصطفى مشعل وحسن محمد حسن وجميل شفيق ومصطفى حسين وطوغان وفهد الحجيلان ومحمد الطراوي وحسن راشد.
ومن بين الأجنحة المهمة، الجناح المخصص لاستعراض أعمال زكريا الزيني (1932-1993) الذي اهتم بتوثيق الطقوس الصوفية؛ إلى جانب الألعاب الشعبية التي أبرز تفاصيل ممارستها، محتفيا بالفرجة والجموع البشرية وحركتها والرموز المتّصلة بها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفنان سيد عبدالرسول (1917-1995) الذي انشغل بتصوير الأرياف والمدن المصرية، واستعار أسلوب تحريك العناصر على جدران المقابر الفرعونية محاولاً محاكاته وتطويره لاحقاً.
◙ المعرض يعدّ الأول من نوعه في تاريخ الحركة التشكيلية المصرية وبات طقسا سنويا يبدأ به الغاليري موسمه وشهدت الدورة الجديدة توسعا في استضافة طيف كبير من الفنانين المصريين
كما تُعرض لوحات عمر النجدي (1931-2019) المستمدّة موضوعاتها من الطبيعة والبيئة المحلية والتي نأت عن المحاكاة المباشرة، وكذلك اللوحات الحروفية التي تعتمد على تكرار حرف السين أو الألف واللام والميم في منظومة هندسية.
ويقدم المعرض أعمال الفنان مصطفى مشعل (1944-2010) الذي اهتمّ باللون كعنصر أساسي في لوحته، متناولا موضوعات تخصّ القرية المصرية، عبر تسجيل نمط الحياة والشخصيات العادية التي تسكنها في إطار توظيفه للأسطورة والعديد من الرموز الشعبية. وتضم حديقة ضي الزمالك الخارجية مجموعة من الأعمال النحتية لكبار النحاتين المصريين مثل آدم حنين ومصطفي متولي وعبدالحميد حمدي وأحمد جاد ومأمون الشيخ.
أما الجزء الثاني من معرض "مبدعون خالدون" الذي ينعقد في ضي المهندسين، فيحتوي على مجموعة من الأعمال لكل فنان راحل وتتصدرها مجموعة الفنان ممدوح عمار، وهناك جناح خاص للحروفي الكبير عبدالصبور عبدالقادر، وآخر للفنان محمد الطحان، وأجنحة أخرى للفنانين الراحلين مصطفى عبدالفتاح ومحسن شعلان وصالح عبدالصبور ومحمود عبدالله وسمير رافع وأحمد فؤاد سليم وإنجي أفلاطون وعبدالرحيم شاهين.
إلى جانب أعمال فنانين آخرين، منهم: يوسف كامل (1891-1973)، وجمال السجيني (1917-1977)، وزينب عبدالحميد (1919-2002)، وإنجي أفلاطون (1924-1989)، وآدم حنين (1929-2020)، وناجي شاكر (1932-2018)، وعبدالمنعم مطاوع (1935-1980)، وجميل شفيق (1938-2016)، وسامح البناني (1945-2020)، وغيرهم.