النوستالجيا الإعلامية أقسى من ممارسة الحرية في مصر

تحول اللجوء إلى مناقشة قضايا قديمة وإعادة طرحها في بعض وسائل الإعلام المصرية من “نوستالجيا” أو حنين إلى الماضي، بكل ما يحمله الإفراط من معان تشي برفض الحاضر، إلى أداة لإسقاطات سياسية واقتصادية والهروب من التضييق المباشر أو الضمني على الحريات في مصر بما منح فرصة لمواقع التواصل الاجتماعي لتصبح أكثر تأثيرا نظرا إلى ما تتمتع به من حرية تصل أحيانا إلى درجة الفوضى.
القاهرة - أصبحت النوستالجيا من الأدوات التي تلجأ إليها النخبة المصرية منعا لما يمكن أن تؤدي إليه معالجة بعض الملفات المطروحة بقدر عال من الشفافية، الأمر الذي مثّل صيغة مريحة لمسؤولين في صحف ومواقع مصرية رسمية، حيث تجنبهم إزعاجا سياسيا وتبعد عنهم ضغوطا يمكن أن يتعرضوا لها عند التطرق إلى موضوعات معينة.
ووجد البعض من الكتاب في التوقف عند قضايا من الماضي أداة وحيلة جيدة لتوصيل ما يريدونه من خلال إسقاطات غير مباشرة على الواقع الراهن، فعندما يمتدح الكاتب موقفا حدث منذ عقود فهذا يعني رفضا عند المرور بموقف شبيه له.
ويمكن العثور على كثير من القضايا والقياس على شكلها القديم من دون الحاجة إلى التوقف مباشرة أمام التصرفات التي صاحبتها سابقا ومقارنتها بما يجري حاليا، فالقارئ الحصيف يستدعي الفروق تلقائيا وتصل الرسالة التي أراد الكاتب توصيلها.
وكشف اهتمام بعض الكتاب بالذكرى السادسة والعشرين لرحيل الصحافي المصري أحمد بهاءالدين في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي عن حدود القيمة المعنوية التي لا يزال يحظى بها الرجل، وعند التدقيق في الصفات التي جرى تعدادها والدور الذي لعبه في تحريك المياه الراكدة في بعض القضايا الحيوية، يتبين أن الذكرى هذه المرة تجاوزت الاحتفاء بالرمز إلى الحزن على واقع مهنة تعاني من مشاكل مختلفة.
التفتيش في النوايا بدأ يتسع إلى الحد الذي أفقد النوستالجيا قيمتها ومعناها لدى الكتاب والقراء على حد السواء
وقال صحافي مصري لـ”العرب” إنه كتب مقالا عن الراحل أحمد بهاءالدين في هذه المناسبة وتعمد الاستفادة من فكرة النوستالجيا الإعلامية التي صارت مريحة لرؤساء التحرير، حيث تحدث عن الرجل بلا تحفظ ولم يضع لنفسه خطوطا حمراء وبدا أمام نفسه كأنه يجري تدريبا ذهنيا لما كانت عليه الصحافة المصرية وما أصبحت عليه.
وحاول الصحافي تسريب ما أراد كتابته حول ما يدور في كواليس صاحبة الجلالة (وهذا هو الاسم الشائع للصحافة في مصر) حاليا من خلال سيرة بهاء العطرة وخصاله المهنية النزيهة والبعيدة عن الأهواء الشخصية، ما يعني الندم على ما يراه من ممارسات لرؤساء تحرير معه وغيره من الكتاب.
وأضاف الصحافي، الذي رفض ذكر اسمه، أنه والكثير من زملائه توقفوا عند بهاءالدين كرمز للمصداقية والموضوعية والشرف وهي صفات مفتقدة حاليا، على أمل أن يصل إلى القارئ أن هذا النموذج أسهم بدور معتبر في إعلاء قيمة الصحافة الوطنية عسى أن يشعر من بيدهم الأمر والنهي أن حرية الكاتب واستقلاله عملية مفيدة للحاكم أولا.
وانتبه بعض رؤساء التحرير إلى هذه النوعية من الحيل وأصدروا تعليمات لمسؤولي الصفحات للانتباه جيدا إلى ذلك وضرورة وضع خط أحمر أمام العبارات التي تمثل حرجا أو مرفوض استخدامها في القاموس الصحافي، وبدأ التفتيش في النوايا يتسع إلى الحد الذي أفقد النوستالجيا قيمتها ومعناها لدى الكتاب والقراء، فتفريغ الكتابة من مقاصدها يمثل انهيارا جديدا لحائط اعتقد بعض الكتاب أنه يكفي للبوح بما يريدونه.
ولذلك أخذ الهروب إلى الماضي يتحول إلى صداع أقسى من ممارسة الحرية الإعلامية بأريحية في مصر، فالإسراف في النوستالجيا حاضر في العديد من وسائل الإعلام باعتبار أن الرمزية مأمونة العواقب، لكن بدلا من أن تكون وسيلة لإيثار السلامة أصبحت في طريقها لتتحول إلى وسيلة للندامة، فكل حديث إيجابي عن شخص أو موقف أو قضية تاريخية يتم التعامل معه على أن المقصود منه رفض الواقع الراهن.
وأدى اتساع مسلسل النوستالجيا في وسائل الإعلام إلى مشكلة كبيرة، حيث يصعب وقفها في ظل حزمة ممانعات مفروضة عند التطرق إلى تطورات سياسية بدرجة عالية من الحرية الإعلامية، وأصبح العزف على أوتارها مصدر إزعاج خوفا من تسرب كلمات ومفردات ومعان يمكن فهمها على أنها تحمل مضامين سلبية آنية.
ووقعت العديد من وسائل الإعلام التابعة للحكومة المصرية وتلك التي تدور في فلكها سياسيا في أزمة مهنية مزدوجة، فإذا حرّمت النوستالجيا في بعض القضايا تكون خسرت كل شيء، وإذا أباحها المسؤولون عن التحرير قد يجدون أنفسهم ضحية للمحظور، فلا هم قادرون على التعامل مع الحاضر ولا يمكنهم الهروب منه إلى الماضي، ما يفرض مجموعة جديدة من القيود والمحرمات تكبل الإعلام المصري، بما يصعب على رؤساء التحرير تحمل نتائجها أمام الجمهور.
المعطيات تفرض على الحكومة المصرية القيام بمراجعة لحال الإعلام في البلاد، لأن الخيارات البديلة لاستمرار التضييق سوف تكون خطيرة للغاية
وعندما حاولت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية الرصينة التخلي نسبيا عن تقاليدها والتركيز على الإثارة في الفن والرياضة والقضايا المجتمعية واللجوء إلى البث المباشر وجدت نفسها مكبلة أيضا بقيود في المعالجات زادت بعد أن تسبب خطأ ارتكبه أحد المواقع التابعة للحكومة مؤخرا في أزمة عميقة عندما بث على الهواء ألفاظا نابية في حق رئيس الدولة انتهت إلى تحريم البث المباشر في الإعلام المصري عموما حتى إشعار آخر.
واستبشر بعض الخبراء في مصر خيرا بانطلاق جولات الحوار الوطني بين قوى وأحزاب مختلفة، والإفراج عن بعض النشطاء والسياسيين، ووقف الزج بمن يكتب رأيا حادا مخالفا لتوجهات الحكومة، على أساس أن هذه التطورات رسالة بإمكانية اتساع هامش الحرية في البلاد تصلح لاتخاذها مؤشرا على تراجع الحاجة إلى النوستالجيا التي أصبحت أضرارها أكثر من نفعها بسبب تكرارها في مجالات متعددة.
وإذا لم تقم الحكومة بتوفير الأجواء المناسبة لتمارس وسائل الإعلام دورها بهامش كبير من الحرية وتداول المعلومات فإنها ستواجه صداعا شديدا من وراء الإفراط في اعتماد الكثير من الكتاب على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن وصل رواد صفحات شخصية ومتابعوها بصورة منتظمة إلى أرقام كبيرة حوّلت أصحابها إلى نجوم على فيسبوك وتويتر ويوتيوب دون حاجة إلى نوستالجيا وإسقاطات سياسية متباينة.
وتفرض المعطيات على الحكومة المصرية القيام بمراجعة لحال الإعلام في البلاد، لأن الخيارات البديلة لاستمرار التضييق سوف تكون خطيرة للغاية، وقد تكون النوستالجيا أقلها تكلفة في ظل الرواج الكبير للمنصات الإعلامية المعارضة للدولة المصرية في الخارج.