سلاما أيها المفقودون في لحظة غيابكم

ما يحدث في أوطاننا لا يحدث في أي مكان آخر في هذا العصر الذي لم يعد فيه التفكير جريمة ولم تعد الكتب التي يقرأها المرء تهمة ولم يعد الاختلاف في الرأي ذنبا.
الأربعاء 2022/08/31
إنسان مفقود يحمل رقما

تعددت التسميات والغياب هو المظلة الشاملة، أقول الغياب لكي لا أردد مع المتنبي تعددت الأسباب والموت واحد وإن كان الموت هو الكلمة التي تجمع بين الغائبين في نهاية المطاف. ليس هناك قدر أسوأ من نظام سياسي يضع مواطني البلد الذي ابتلي به على حافة المجهول فلا يجد المرء فرقا في أن يكون معتقلا أو مخطوفا أو مفقودا. ليست هناك مسافة تُذكر.

الفكرة أن تكون في مكان هو في حقيقته لامكان. مَن يصل إليه معتقلا يكون في طريقه إلى أن يكون مفقودا بعد أن اعتقد أنه سيكون مخطوفا إلى أمد قد لا ينتهي بالنجاة. بمعنى أن ذلك الكائن الذي هو أنت أو أيّ إنسان آخر سيزول كما لو أنه لم يكن.

كان كأنه لم يكن. المواطن الذي هو عبارة عن هواء يفقد اسمه ليحمل رقما. ولأن الحكايات تتشابه فإن أحدا لا يروي حكايته للآخرين. بعد حين من خطفه يتأكد له أن أحدا لن ينصت إليه. ليس المطلوب أن يكون قائلا وإن كان عليه أن يقرأ اعترافاته ليوقّع عليها. ولكن اعترافاته لن تكون مهمة إذا لم تُدنه. المطلوب من المرء أن يُدين نفسه ليتم ترحيله إلى الغياب الكامل. بالرغم من أنه في حالة اعتقاله يكون غائبا عن العمل والبيت والشارع والمقهى والسوق وزوجته وأبويه وإخوته وأصدقائه وموهبته وعاطفته ووطنه الذي يتخذ أشكالا غير التي يعرفها.

◙ المفقودون لا يمثلون أزمة بالنسبة إلى الأنظمة السياسية فهي لا تحرجها. لن يتخلى بسببها العالم عن دعم النظام (الديمقراطي) في العراق

لا تصدق عائلته غيابه. أسرى الحرب يعودون غير أن المفقودين منهم لا يعودون. فجأة يشعر أنه صار مفقودا في حرب لم يخضها. حرب لم تقع وقد لا تنتهي لأنها لم تقع. حرب من طرف واحد كان ضحيتها، وأعداء لم يضعهم في موقع العدو اختاروه عدوّا. العدو الذي تحوم حوله شبهات الفتنة والمؤامرة التي هي مجرد صفحة من كتاب النظام. هي الصفحة التي يجب أن تُملأ بأسماء المتآمرين.

ما يحدث في أوطاننا لا يحدث في أي مكان آخر في هذا العصر الذي لم يعد فيه التفكير جريمة ولم تعد الكتب التي يقرأها المرء تهمة ولم يعد الاختلاف في الرأي ذنبا. ذلك جزء من ظاهرة تخلفنا عن العصر. لا يزال العقل جريمة في مساحة كبيرة من العالم العربي. إن كنتَ لا تريد أن تكون عضوا في القطيع عليك أن تختفي أو يتم إخفاؤك. عليك أن تختار قبل أن تحل الكارثة. ولكن غالبا ما يخونك التوقيت أو تكون عاجزا عن الوصول إلى الباب الذي يؤدي إلى نجاتك قبل أن تغرق المركب التي تحملك وحدك.

وما أن يتم اصطيادك فإن سؤالا من نوع “لماذا؟” سيعذبك من غير جدوى. إنه سؤال عبثي لن يجيبك عليه أحد. فقط عليك أن تصدق أنك انتقلت من عالم يُرى إلى عالم الأشباح، تتعطل فيه الحواس ولن تتمكن النبوءات من اللحاق بك. لا أحد ممَن ستلتقيهم في ذلك اللاّمكان يمكن أن يغنيك أو يفيدك بتجربته. ليست هناك تجارب فردية وحتى أدب السجون فيه الكثير من الخيال، ذلك لأن الواقع في حالة الغياب هو غير الواقع الذي يعرفه الآخرون. كل شيء مجازي. في الحقيقة لن تعيش واقعا. ما ستعيشه هو نوع من الكابوس الذي تمتزج فيه الوقائع وهي تقتصر على العذاب والأساطير التي تشبه ليالي شهرزاد، المرأة التي اضطرت أن تقضي الليل من غير نوم في انتظار صيحة الديك من غير نوم، الصيحة التي هي عنوان نجاتها.

◙ مَن يصل إليه معتقلا يكون في طريقه إلى أن يكون مفقودا بعد أن اعتقد أنه سيكون مخطوفا إلى أمد قد لا ينتهي بالنجاة

في العراق (الديمقراطي) وسوريا (الاستبدادية) بشكل خاص هناك غائبون. ميزان غريب فعلا. الشبهات والتهم والذنوب نفسها تنتقل بالبشر من حالة الحضور إلى حالة الغياب. من المرئي إلى اللاّمرئي. من المكان إلى اللاّمكان. ليس للحديث الوطني في تلك الحالة قيمة على المستوى الإنساني. الغائب بالنسبة إلى خاطفيه هو معتقل وهو بالنسبة إلى حياته السابقة مفقود وفي الحالين فإن أحدا لن يعرف عنه شيئا. في لحظة خطفه يكون موجودا في الألم غير أن ألمه سرعان ما يُنسى ليكون شبيها بأيّ ألم قاس آخر. ألم الأسنان مثلا.

لا يمثل المفقودون أزمة بالنسبة إلى الأنظمة السياسية فهي لا تحرجها. لن يتخلى بسببها العالم عن دعم النظام (الديمقراطي) في العراق وهي لا تزيد النظام الاستبدادي سوءا من وجهة نظر العالم.

هي مشكلة فردية حتى وإن شملت عشرات الآلاف من البشر. لا أحد يسأل عن المفقودين ما دام المجتمع الدولي مشغول عن إنسانيته بمصالح الدول الكبرى. ذلك خطأ بشع صرنا ندفع ثمنه في لحظة خطف.

8