دبلوماسية المقايضة الجزائرية لا تحيي العظام وهي رميم

كشف استقبال تونس لزعيم جبهة بوليساريو عن خفايا الدور الجزائري في أفريقيا للترويج لهذه الجماعة الانفصالية، وقد ارتبط هذا الدور بمقايضة المساعدات للدول الفقيرة مقابل هذا الاعتراف، وهي مقايضة سرعان ما تفشل بسبب أن القضية غير عادلة ولا تجد أي اعتراف دولي.
لندن - تعتبر الجزائر أن تمرير مشاركة وفد من جماعة بوليساريو في مؤتمر القمة الأفريقية – اليابانية “تيكاد 8” الذي انعقد في تونس مقابل بعض التسهيلات التجارية والاقتصادية “اختراقا” دبلوماسيا لإحياء “القضية الصحراوية” على المستوى الأفريقي.
لكن هذا “الاختراق” نفسه أعاد بعث السؤال: كم بقي من هذه القضية لكي يصح أن تعود كشاغل من مشاغل الدبلوماسية على المستوى الأفريقي نفسه قبل غيره من المستويات الدولية الأخرى؟
تونس حاولت أن تقدم تفسيرات لتوجيه الدعوة لهذه الجماعة، إلا أنها لم تصمد طويلا أمام حقيقة أن الترتيبات تعلقت بالعلاقات مع الجزائر، وليس لأن تونس تعترف بهذه الجماعة على أنها “دولة”.
ومن بين 53 دولة أفريقية، فإن 16 فقط هي التي تعترف بجماعة بوليساريو على أنها “دولة”. وفي معظم الأحوال فإن هذه الدول تعاني من أزمات اقتصادية وأمنية، وتستفيد من المساعدات الجزائرية، ما يعد مقايضة لا علاقة لها بما إذا كانت بوليساريو تمتلك مقومات الدولة، أو ما إذا كانت جديرة بأي مكانة دبلوماسية.
ويقول المراقبون إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في تونس كانت هي المدخل الذي تسربت منه دبلوماسية المقايضة الجزائرية.
تفسيرات تونس بشأن استقبال زعيم بوليساريو لم تصمد أمام حقيقة أن الأمر مرتبط بالعلاقات مع الجزائر
وألمح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون خلال لقاء إعلامي جرى في الثالث عشر يوليو الماضي إلى هذه الدبلوماسية بالقول إن “الجزائر ساندت تونس اقتصاديًا لكن دون التدخل في شؤونها الداخلية”.
ومنذ أن بدأت الاستعدادات لعقد القمة الأفريقية – اليابانية، عمدت الجزائر إلى تقديم مساعدات وتسهيلات تجارية شملت بعض المنتجات النفطية، وتنشيط حركة السياحة بين البلدين التي ارتفعت في غضون الأشهر السبعة الماضية بنسبة 57 في المئة، ووفرت عائدات لتونس تبلغ 623 مليون دولار. وقد تكون الجزائر تلقت مقابل ذلك ضمانات بأن يتم استقبال زعيم جماعة بوليساريو كرئيس دولة.
وكانت الجزائر قدمت قرضا لتونس في ديسمبر الماضي يبلغ 300 مليون دولار، وأسهمت زيارة الرئيس تبون إلى تونس في ذلك الوقت بتوقيع 27 اتفاقية ومذكرة تفاهم. وكانت جميعها تصب في تأمين ذلك “الاستقبال الرسمي” لزعيم جماعة بوليساريو على غرار استقبال رؤساء الدول الآخرين.
وليست المساعدات لتونس شيئا استثنائيا في “دبلوماسية المقايضة”، فالجزائر تقدم مساعدات أمنية وغذائية وتجارية وتسهيلات لكل الدول التي ما تزال تعترف ببوليساريو كدولة، على الرغم من أنه ما من دولة من هذه الدول تقيم علاقات فعلية مع هذه الجماعة. العلاقة الفعلية الوحيدة هي مع الجزائر.
وشملت مساعدات الجزائر لجمهورية مالي، على سبيل المثال، شحنات من الأسلحة ولقاحات كورونا وأكثر من 100 ألف طن من المواد الغذائية، كما امتدت المساعدات إلى مخيمات اللاجئين الماليين في موريتانيا. وهذا هو ما أبقى مالي بين الدول التي تعترف ببوليساريو كـ”دولة”.
وعلى المسار نفسه، فقد شهد مجرى العلاقات بين الجزائر وموريتانيا تطورا ملحوظا منذ يناير العام الماضي عندما بدأت شحنات المساعدات الجزائرية بالوصول إلى نواكشوط. وبموجب التسهيلات التجارية التي قدمتها الجزائر، فقد بلغ إجمالي واردات موريتانيا من المنتجات الجزائرية نحو 20 في المئة من مجموع وارداتها من الدول الأفريقية.
الجزائر عمدت منذ أن بدأت الاستعدادات لعقد القمة الأفريقية – اليابانية إلى تقديم مساعدات وتسهيلات تجارية وتنشيط حركة السياحة بين البلدين
وكان من اللافت في هذا السياق أنه بعد ساعات من زيارة وزير الصحة الجزائري عبدالرحمن بن بوزيد إلى نواكشوط على رأس بعثة طبية ومساعدات وتجهيزات لمصلحة المستشفيات الموريتانية في الخامس من يناير العام الماضي، قام قائد الأركان العامة للجيوش الموريتانية محمد بمبا مقيت بزيارة إلى الجزائر، واستقبله قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة في إطار مسعى وصفته المصادر الرسمية الجزائرية بأنه “إعادة بعث تحالفات إقليمية وأفريقية كانت إلى وقت قريب تشكل قوة تأثير ومواجهة، بما يخدم مصلحة شعوب المنطقة”.
وكانت “المواجهة” مع المغرب هي الهدف الرئيسي للتنسيق بين البلدين اللذين اتفقا “على الحاجة الماسة إلى تعزيز تبادل المعلومات وتنسيق الأعمال على جانبي الحدود المشتركة بين الجزائر وموريتانيا ودول الساحل”.
ويقول بعض المراقبين للشؤون المغاربية “إن هذا التقارب يندرج ضمن المشروع المتمثل في المعبر البري الأول من نوعه، ودشن العام 2018، بعد القرار الموريتاني المفاجئ في 2017 باعتبار الحدود مع الجزائر منطقة عسكرية مغلقة”.
وما من شيء في هذا كله يمكنه أن يغير شيئا في واقع أن جماعة بوليساريو لا تمتلك مقومات دولة لكي يمكن الاعتراف بها. كما أن دبلوماسية المقايضة الجزائرية القائمة على استضعاف الدول، واستغلال حاجتها لا توفر إطارا ثابتا يمكنه أن يدعم هذا الاعتراف. وكان من السهل على هذا الأساس أن تسحب بعض الدول مثل بنما ومالاوي وكينيا وبوليفيا والبيرو اعترافها ثم عادت لتستأنف الاعتراف، لأكثر من مرة في بعض الأحيان، ليس لأن جماعة بوليساريو تغيرت بل لأن مستويات المساعدات الجزائرية هي التي تغيرت.
هذا الواقع يثير تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان من الصائب بالنسبة إلى دولة هي نفسها بحاجة إلى استثمارات أن تقدم تسهيلات ومعونات لأجل قضية بائدة، ولم يبق من عظامها إلا الرميم.
على امتداد السنوات منذ المسيرة الخضراء في نوفمبر العام 1975، فقد سحبت العديد من دول العالم اعترافها بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”، لا لشيء إلا لأنها لا تمتلك من مقومات "الجمهورية"
فالمغرب يسيطر على أكثر من 80 في المئة من أراضي صحرائه. والمجتمع الصحراوي المغربي نابض بالحياة والمشاريع والأعمال والخدمات. أما الـ20 في المئة الباقية، فقد وظفها المغرب لتكون حاجزا جغرافيا بينه وبين الجزائر لتحاشي الصدام المباشر بين البلدين الشقيقين، ولتكون ملعبا لجماعة بوليساريو لكي تستنفد فيها طاقتها في التدرب على أعمال العنف.
وعلى امتداد السنوات منذ المسيرة الخضراء في نوفمبر العام 1975، فقد سحبت العديد من دول العالم اعترافها بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”، لا لشيء إلا لأنها لا تمتلك من مقومات “الجمهورية” أي شيء، ولأنها مجرد وهم افتراضي لا محل له من الإعراب، لا السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي. وهي وهم يقوم على عمود واحد هو دبلوماسية المقايضة الجزائرية. وحتى هذه الدبلوماسية هزيلة قياسا بحقيقة أنها لا تساوي إلا القليل حيال ما تحتاجه الدول التي تقع ضحية لتلك المقايضة. ثم إنها بحكم طبيعتها المؤقتة بالذات، لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية.
وقدمت الدول التي سحبت اعترافها بجمهورية الوهم، ثم أعادته ثم عادت لتسحبه من جديد مثل بوروندي وغينيا بيساو وتشاد وباراغواي الدليل على أن انقضاء الحاجة إلى المساعدات يكفي لتغيير الموقف، حتى من دون أن يكون للمغرب أي دور لأن أسس الاعتراف نفسها بوجود دولة غير متوفرة، ما يجعل المقايضات الدبلوماسية تدور في حلقة أوهام لا تحقق أي نتائج قابلة للصمود.
الدولة، من ناحية التعريف، هي كيان يقوم على أربعة مقومات أساسية، هي الأرض والسكان والسيادة والمؤسسات. كما أنها كيان يعيش على موارده الخاصة التي تكفل استقراره وتوازن احتياجاته. وهي مقومات لا تمتلكها جماعة بوليساريو التي لا تعدو كونها مجموعات مسلحة تابعة للجيش الجزائري. وهي تتحرك في فضاء جغرافي تعمّد المغرب أن يتركه خاليا عندما قرر استعادة أراضيه بعد رحيل الاستعمار الإسباني منها.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بالعلاقات الدبلوماسية، فإن الدول التي تعترف بسيادة أي دولة أخرى على أراضيها لا بد لها في النهاية أن تقيم ممثليات دبلوماسية لها على أرض تلك الدولة.
“جمهورية تندوف”، وهي أرض جزائرية، لا يوجد فيها شارع سفارات للدول التي تعترف بالمقايضات الجزائرية.