ليلة الغزل البريء

ما لم نكن نتوقعه أن تُضرب طفولتنا بعصف غزل خفيف وخجول وعفيف من نوع “طار في الهوا شاشي/ وأنت متدارشي”، حدث ذلك قبل أن تهمس فائزة أحمد بقدر من الجرأة “يمه القمر على الباب/ نور قناديلو/ يمه أسد الباب/ ولا أناديلو”، بعدها صار ممكنا أن تصرح صباح بصوت فاتن “يا إنا يا إنا يا حبيبي أموت آنا”، لقد تغير الزمن. أخذت طفولتنا معها الليلة الكبيرة بكل سحرها وعبق روائحها وسعادتها الغامضة.
لم يبق إلا الضجيج يملأ الحارات. حتى الجرأة التي تميزت بها الصبوحة اللبنانية لفها النسيان.
أراها جالسة وقد كبرت بالعمر وهي تستمع إلى مطربة شابة تردد أغنية كانت بصوتها تنزل مثل ضوء القمر في داخلها تصطدم الكلمات العذبة غير أنها لا تخرج من شفتيها “ذنبك ايه/ ذنبك بحبك/ هو بعد الحب ذنب”. لقد حل عصر الذنوب ولم يعد أحد يتذكر رشدي أباظة الفتى الذهبي الذي يحيط به عمر الشريف وأحمد رمزي كما لو أنهما حارسان.
كانت الليلة الكبيرة ليلة للجميع، صغارا وكبارا، نساء ورجالا، وهي ليلة المفقودين، تلك الكائنات المرحة التي غادرتنا في تلك الليلة “رحمة يا ولداه/ كم عيل تاه” العيال التي تاهت تركت وراءها مكانا فارغا في التاريخ لم يحتله الأمل.
عام 1959 كان الشاعر المصري صلاح جاهين في زيارة إلى صديقه الموسيقي سيد مكاوي ومن أجل الوصول إلى بيته اخترق احتفالات الليلة الكبيرة وهي ليلة مولد السيدة زينب.
حين وصل إلى بيت مكاوي كانت القصيدة قد اكتملت وفي الليلة نفسها لحنها مكاوي لتكون نواة لأوبريت “الليلة الكبيرة”.
حدث لا يتكرر في تاريخ مسرح العرائس “الدمى”.
الدمى التي مثلت الأدوار على المسرح كانت من صنع الرسام ناجي شاكر، غير أن الكلمات كانت بأصوات كبار المطربين يومها. وهي الأصوات التي لا تزال مقيمة في أعماق جيل من العشاق الذين كانوا يتلفتون من حولهم وهم يلقون التحية على الجميلات “مسا التماسي مسا التماسي/ يا ورد قاعد على الكراسي”.
لم تنته الليلة الكبيرة بعد أن تفرق الجمع وذهب السحرة إلى بيوتهم ونام بهلوانات السيرك، فقد ملأت كلمات صلاح جاهين وموسيقى سيد مكاوي القلوب وضربت أهداب العيون بهوائها النقي والمهذب.
خلد الفن ليلة كانت بالنسبة إلى الأطفال ليلة واحدة في السنة، فصارت بالنسبة إلى الكبار كل الليالي التي يحرص المرء على ألّا تفلت من ذاكرته. فهي ليلة الغزل البريء الذي يخترق مثل خيط ناعم قلوب الناس كلها.