صفاء الفهدية: الفن أفضل وسيلة للحديث مع ما حولنا

فنانة عمانية تحول الأساطير الشعبية إلى أعمال مفاهيمية.
الثلاثاء 2022/08/23
حديث دون خوض أي حوار أو نقاش شفهي

لم يعد الفن التشكيلي المعاصر مكتفيا بتتبع مدرسة من المدارس لخلق جمالية ما، ولم يعد معنيا بالتلقي السطحي أو القائم على الدهشة السريعة، بل صار ينحو أكثر إلى محاولة ترك أثر فكري ونفسي، وهو ما ترسخ مع الفن المفاهيمي الذي تبناه الكثير من الفنانين والفنانات الخليجيين. فيما يلي حوار مع الفنانة التشكيلية العمانية صفاء الفهدية حول تجربتها مع الفن المفاهيمي.

خميس الصلتي

مسقط – تتشكل تجربة الفنانة التشكيلية العمانية صفاء الفهدية في حضور نوعي يقترب من واقع الإنسان وتفاعله مع محيطه الذي يشكل هو الآخر هويته وماهية حقيقته، كما أنها تعمل على إبراز جماليات وتضاد ذلك الإنسان ضمن أطر فنية مغايرة.

وترى الفهدية أن الرسالة المقدمة للجمهور من خلال الأعمال الفنية التي تعرضها هي المحور المميز، وتقول إن أعمالها الفنية تهدف إلى الحديث مع الجمهور المتلقي والتفاعل معه من أجل التعايش والدخول بتأثر وتعمق في ذلك العمل، والفن يهتم بالتلاحم مع الإنسان والإنسانية ويتكامل مع المجالات والعلوم الأخرى، لما له من دور نفسي وعلاجي وعلمي وإبداعي، ويعد محورا أساسيا للثقافة، وأفضل وسيلة للحديث مع ما حولنا هي الفن.

الفن المفاهيمي

للفنانة الفهدية توجه نحو الفن المفاهيمي وتقر بتوغل ذلك الفن في مسيرتها الفنية، والغرض المباشر من التوجه نحوه توضحه بقولها “تجاربي الشخصية في الفن المفاهيمي دائما تختلف عن تجارب أي فنان آخر في نفس المجال. ويبدو أن الفن المفاهيمي على الرغم من ظهوره في فترة متقدمة من السبعينات، إلا أن الفنان نادرا ما يلجأ إلى التعبير عن فنه بالمفهوم، لأن الفن المفاهيمي يحتاج فكرا وقوة في إبراز العمل الفني وفي اختيار العناصر الصحيحة والمؤثرة للتعبير عنها، وكذلك الطريقة المناسبة للعمل عليها”.

صفاء الفهدية: الفن يهتم بالتلاحم مع الإنسان والإنسانية ويتكامل مع العلوم

وتضيف “يجب ألا ننسى أن الخامة المستخدمة أو الوسيط المستخدم في العمل الفني له دور كبير جدا في إلقاء الرسالة بالشكل المطلوب، فعلى سبيل المثال عندما يعرض الفنان عملا تركيبيا أو عملا في التجهيز في الفراغ لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان، لأن الفترة الزمنية -وبكل بساطة- تعطي انطباعا ورسوخا قويا في التآلف مع العمل الفني وتذكّره؛ فإن كانت قضية العمل مثلا للدفاع عن حقوق المرأة فعرض العمل في يوم المرأة العماني يمكن أن يكون أعمق أثرا من الأيام الأخرى، أما عن المكان فاختياره له أثر نفسي كبير، فإن كان الموضوع يدل على الجفاء والفقر والألم فمن الممكن أن تكون الصحراء أو الأرض الجرداء المكان الأكثر ملاءمة لإقامة العمل الفني”.

وحول أهم الأعمال التي شكلت علاقة الفهدية بهذا الفن تتذكرها هنا وتقول “في أعمالي الفنية دائما أدقق في اختيار الخامة المثلى لعرض الفكرة أو العمل، فعمل ‘طفل النذر’ تغلب عليه البيئة الرملية، وعمل ‘نافذة’ كان من نوافذ حديدية أخذتها من أحد المنازل من قرية عمانية قديمة، وهكذا الحال مع أعمالي الأخرى. وما يجعلني سعيدة حقا أن جميع المشاهدين من فنانين ونقاد ومتذوقين للفن كانت تستوقفهم جمالية المادة المستخدمة في العمل وروحانية العمل أثناء العرض، وبهذا أجد نفسي وفقت في الحديث معهم دون خوض أي حوار أو نقاش شفهي”.

وتضيف في السياق ذاته “العمل التركيبي ‘طفل النذر’ هو الأقرب بالنسبة إلي، ويعد من الأعمال الفنية المفاهيمية المعاصرة، والفن المفاهيمي دائما يهتم بالفكرة والرسالة التي يقدمها الفنان. وفي الواقع هذا ما لمسته من الفن في بداية ممارستي له، فهو يحمل رسائل فنية وعلى الفنان اختيار الطريقة الصحيحة في إنتاج وتقديم العمل الفني للجمهور”.

وتتحدث عن رحلة فنية أخرى لا تقل أهمية عما سبقها قائلة “أما عن رحلتي مع العمل الفني ‘مرحلة’ في عام 2017 فقد بدأت -ولفترة من الزمن- بالتأمل؛ كيف أن الشيء وضده هو تكامل… ، وما إن يوشك الإنسان أن يخرج من مرحلة حتى تتبعها مرحلة أخرى لا تقل عنها أهمية، وتختلط هذه المراحل بين الفشل والنجاح والنهوض بعد السقوط، هنا يأتي دور الفنان في كيفية التعبير عن هذا المفهوم واستكشاف مدى أهمية توصيل الفكرة في المجتمع بالطريقة المثلى. ثم أنتجت أعمالي الفنية الأخرى، وتحديدا ‘نافذة’ و’تفكر’، وكانت عبارة عن إسقاطات لأفكاري المكنونة في هيئة رمزية مفاهيمية”.

وتضيف “بالنسبة إلى العمل الفني ‘مرحلة’ الذي كانت فكرته هي تأمل الإيماءات التي تعبر عن مشاعر الأشخاص، بدأت بتصوير امرأة لهذه المشاهد، وتزامن ذلك مع التقاط الصور المتتالية في كل مشهد، وقمت بعرض الصور أمامي واحدة تلو أخرى، وبدأت بالتأمل؛ ماذا لو قمنا بحذف إحدى هذه الصور؟ إذًا سيكون هناك خلل أو شيء مفقود في تلك المرحلة، فعزمت على طباعة تلك الصور الملتقطة في لوحات من زجاج، ثم قمت بصفها بطريقة يستطيع بها المشاهد رؤية تلك الالتقاطات بشكل متكامل. أقرّ الجمهور أثناء العرض بأن هناك مشكلة في حذف صورة من المشهد، وعبر الجميع عن إحساسهم بأن المعنى غير مكتمل، وأن كل لحظة إيجابية أو سلبية هي مهمة جدا لتكامل المنظومة في الحياة”.

أساطير وقصص

◙ بلورة الرموز الشعبية في عمل فني معاصر
◙ بلورة الرموز الشعبية في عمل فني معاصر

العارف بأي عمل لفنانة عمانية أيا كان توجهها الفني التشكيلي، يرى ذلك التماهي حيث تفاصيل الأنثى وواقعها المرتبط بأحداثها المتقاطعة اليومية، التي قد لا يمكن الانسلاخ عنها، وهذا ما تشير إليه الفهدية حيث مسيرتها الفنية ومدى تجسدها، وتؤكد “الأنثى بكينونتها، والقضايا المتعلقة بالمرأة بالطبع ستلامس صفاء المرأة قبل أن تكون فنانة، ظهور المرأة في الأعمال الفنية بهيئة عادية أو مغطاة الوجه والملامح كلها لها أهداف للتأمل والتمعن في المرأة”.

وتشير إلى أنه “بالرجوع مرة أخرى إلى العمل الفني ‘مرحلة’ نجد أن من قامت بتجسيد المشاهد هي امرأة ارتدت عباءة سوداء غطت جميع ملامحها، هذا الغطاء دل على أن ملامح المرأة لا تهم، بل إنها باستطاعتها الحديث مع الجميع والمرور بكل تلك المشاعر والمراحل مهما كانت تمتلك من صفات في جميع الثقافات والحضارات، فهي تفرح وتسقط وقادرة على النهوض من جديد. وقمت بالعديد من الأعمال في مجال الفيديو آرت مثل العمل الفني ‘لغة امرأة’ الذي فاز في ملتقى الفيديو آرت الدولي في الدمام بالمركز الثالث لهذا العالم، حيث مواجهة المرأة للمجتمع (الأوامر والالتزامات التي يفرضها عليها…) تحكم عليها بنظام حياتي معين، وتعبر في الفيديو عن أنها تحاول جاهدة زخرفة ثوبها الأسود احتجاجا على ذلك، أما في العمل الفني ‘البنجري المشوك’ فتظهر محاولات للمرأة لحماية نفسها، وتظهر كما لو أنها تقاوم شيئا في محيطها”.

وللفنانة تجارب حول تسويق المنتج الثقافي الفني، وهي بلا شك عملية علمية حول الهوية البصرية كمدخل لمشاريع ريادة الأعمال، مرورا بالفرص والتحديات المعاصرة في مسيرة الفن. هنا، حيث هذه التجارب، تقول “هي كانت أولى تجاربي في تسويق المنتج الثقافي، حيث عزمت أثناء تحضيري لرسالة الماجستير أن أهتم بالفنون الشعبية العمانية والموروثات الفنية العريقة، فقد وجدت أن هناك الكثير من الفنون المادية وغير المادية التي مازالت لم توثق، وقد ندرت مع مرور الأيام دون السماع عنها إطلاقا، فقدمت في مؤتمر رسالة بحثية تحمل عنوان ‘الهوية البصرية كمدخل لمشاريع ريادة الأعمال'”.

وتتابع “كان الهدف الأساسي من الرسالة رصد رموز الهوية العمانية، من خلال زيارتي إلى العديد من الأماكن التراثية والتقاط الصور واستخراج الرمزيات الفنية والجمالية منها كالنقوش والزخارف والأقواس المنحوتة في القلاع والحصون والمساجد القديمة والبيوت العتيقة، ومزاوجة هذه العناصر بالألوان المختلفة عبر برامج التصميم؛ لإنتاج بطاقات تعريفية سياحية ومنشورات مختلفة. والتحدي الأكبر الذي واجهته هو الحرص على الحفاظ على هيئة ذلك الرمز وألوانه الحقيقية دون تغييرها أثناء استخدامها في البطاقة المصممة، وحصلت على نتائج جميلة في إنتاج تلك المنشورات، ومازلت مستمرة في هذا المشروع، ولدي أفكار مستقبلية في البحث عن مفردات نادرة في الشكل واللون، وتقديمها إلى الجمهور بطريقة معاصرة، كذلك هناك خطط قريبة لعرض هذه المنتجات على مستوى أكبر من خلال المواقع الإلكترونية”.

وثمة تجارب أخرى بصرية لدى الفنانة الفهدية كونها متخصصة في مجال الفن المعاصر في الفنون البصرية، غير تلك التجارب التي قد نراها في لوحة تعلق على جدار معرض تشكيلي محدد، ونذكر هنا العمل الفني أسطورة “طفل النذر”، وهنا تحدثنا عن هذه الأسطورة وتوظيف التاريخ في العمل وتوضح “أسطورة ‘طفل النذر’ هي إحدى الأساطير العمانية التي تتصل بالمجتمع اتصالا معنويا وفكريا بشكل قوي، ومن المدهش أن هناك أساطير عالمية شعبية مشابهة لها، وتتمثل هذه التجربة في تجسيد الأسطورة بشكل واقعي ممزوج بروحانية الشعوب القديمة في عمل فني معاصر يلامس الواقع الأثري للعمانيين وغيرهم بشكل مباشر”.

أعمال الفنانة تهدف إلى الحديث مع المتلقي والتفاعل معه لخلق التعايش والدخول بتأثر وتعمق في ذلك العمل

وتؤكد أنها مثل الفنانين الآخرين في مختلف الحضارات القديمة الذين جسدوا موروثاتهم بأساليب متعددة، وبدورها كباحثة وفنانة في هذا المجال تبنت هذه الأسطورة لإيصالها بأسلوب فني فريد في ساحة الفن العمانية والعالمية. كما أن الفن، في رأيها، يعتبر الوسيلة المثلى لإيصال الرسالة على أكمل وجه، حيث تتأخر أفضل الأساليب للتعبير والتوثيق للأفكار والأساطير المتوارثة شكلا ومضمونا عبر الزمن.

وتضيف “تجربتي في إنتاج عمل فني تركيبي -التجهيز في الفراغ، الفيديو آرت- تؤكد على أهمية إيجاد مدخل ترتبط فيه تجربة الفنان بهويته وبلورة الرموز الشعبية في عمل فني معاصر، حيث تنشئ الفنانة مساحة فراغية لسرد الفكرة المستلهمة من الأسطورة وتوزيع عناصرها -العنصر السائد هو الجنين- وتنظيمها وعرضها، فتوجد نوعا من التفاعل بين جميع العناصر النحتية والتكنولوجية المتمثلة في الفيديو والتهويدة في الفراغ، وتنسجم مع الجمهور أثناء عرضها ليكون عنصرا متفاعلا معها عندما يعود بذاكرته إلى ماضيه وتراثه ويعيش معهما في الواقع بشكل ملموس، وهذا يدل على حرص الفنانة على التعبير عن مضمون أعمالها بالشكل الهادف والجاذب، الذي يرقى بجمالية التراث وعبق الماضي”.

وتؤكد “لقد بدأت التجربة بتدوين العديد من القصص والأساطير العمانية الشعبية من خلال الاستماع إلى العديد من أفراد المجتمع، وعند سماعي عن ‘طفل النذر’ كان له وقع عميق على مسامعي وخيالي، حيث ارتأيت أن التعبير عنه من خلال أعمال فنية معاصرة يعتبر هو الأول من نوعه في سلطنة عمان. استمعت إلى العديد من رواة هذه القصة ولاحظت تكرار بعض المصطلحات كرمزيات القصة وأحداثها المتوالية، وانطلقت بمخيلتي في رسم الاسكتشات الأولى، وهي عبارة عن فتاة صغيرة يترقبها صقر فوق ‘سمرة’ تحمل بجنين صقر في أحشائها، وتتوزع أجنة الإنس من حولها بشكل عشوائي، وتظهر ملامح الفتاة في هيئة هلع، إلا أنني أعدت التعبير عن هذا المشهد مجددا بصيغ أخرى محاولة الوصول إلى المعنى الكامن في تلك الأسطورة”.

والقارئ لمسيرة الفنانة الفنية والمتتبع لها يجد ذلك الوجود المباشر لها في المجموعتين البحثيتين؛ وهما “OVARG” للفنون البصرية العمانية و”CHRVAG“، البحث النقدي والتأريخي للفنون البصرية. وهنا توضح ماذا يعني ذلك التواجد، وما المحفزات التي دعتها للانضمام إلى هذه المجموعات المعنية بالفن البصري، قائلة “إن هاتين المجموعتين لهما دور كبير في توثيق الفن وعمل دراسات بحثية للفن في سلطنة عمان وخارجها، لذلك وجودي في هاتين المجموعتين يتيح لي فرصة إنجاز دراسات بحثية فردية أو جماعية تفيد الفنان والمجتمع مستقبلا”.

وتقترب الفهدية من المدارس الفنية التي دائما تكون أكثر توافقا مع طرحها الذهني الفني، ومن ثم صقله ليكون واقعيا أكثر لدى الجمهور وأقرب إليه من تلك المدارس غير المفاهيمية، أما عن الأسباب التي تجعل من الفنان يتجه إلى مدرسة فنية دون غيرها فتقول “أظن أنني انتهجت اتجاهين في ممارستي للأعمال الفنية، الأول هو الواقعية في التصوير والتعبير عن الموضوع الفني، وهو عبارة عن نقل الآداب والموروثات غير المادية على هيئة صورة بصرية أو رمزية في اللوحة، أما عن الاتجاه الآخر وهو السريالية فكثيرا ما تجوب أعمالي الفنية الخيال والتعبير عن النفس والعقل الباطن وما يحويه من مشاعر وأحاسيس مختلفة”.

في نهاية هذا التطواف لا نود الرجوع إلى ما خلفته جائحة كورونا، إلا أننا نتعرف على الكيفية التي استفادت بها الفنانة صفاء من هذه التجربة، حيث تقول “جائحة كورونا على الرغم من أنها من أصعب الفترات التي مرت على الإنسانية إلا أنها قد يكون لها جانب إيجابي بالنسبة إلى الفنان، ومن جهة أخرى قد تتيح للفنان فرصة الجلوس مع نفسه والتأمل والتفكر في نفسه وما يحيط به من مواقف وأحداث، وقد تكون الجائحة مصدرا لتعبير الفنان عن مشكلة عالمية كبيرة”.

إبراز جماليات وتضاد ذلك الإنسان ضمن أطر فنية مغايرة

14