"قطار خرج عن السكة" قصص عمانية تعتمد على تفاعل القارئ

طلال المعمري
مسقط - تتجه نصوص "قطار خرج عن السكة" للكاتب العماني وليد الشعيلي، نحو التكثيف في الدلالة والاختزال في الألفاظ، وهي تحاكي روح العصر التكنولوجي سريع الإيقاع، الذي يحتاج إلى نصوص تقول الكثير بأقل عدد من الكلمات. ويواكب بذلك سمات القراء الجدد الذين يملون بسرعة ويحتاجون إلى نصوص أكثر تكثيفا.
ولا تخرج نصوص الكتاب الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن، عن مناقشة قضايا تهم إنسان العصر الحديث، كمواقع التواصل الاجتماعي، والقضايا المستجدة مثل جائحة كورونا وثورة البراكين.
وتكشف النصوص وعي الكاتب بما أحدثته ثورة التكنولوجيا من تغيير في السياق الاجتماعي وفي التعبير اللغوي، ومن ذلك قوله "كلما مر علي عنوان رواية 'الحب في زمن الكوليرا'، مباشرة يتحول العنوان في رأسي إلى 'الحب في زمن الواتساب'". وفي نص آخر يقول "أحيانا، كلمة ‘أحبك‘ في الواتساب، ثم كلمة ‘أكرهك‘ في تسجيل صوتي، تشعر أنها مجرد تقنيات لابد منها".
وتتسم نصوص الشعيلي بأنها تقارب القصص القصيرة جدا المختزلة أو ذات المشاهد المحذوفة، معتمدة في استكمال المشهد على تفاعل المتلقي وطريقته في التفكير، ومتيحة للقارئ المجال للتقاطع مع النصوص وفقا لخبرته الذاتية وتجربته الخاصة. ومن ذلك نقرأ "بالصدفة كان ينظر لواجهات محل البيتزا الزجاجية، رأى حبيبته أيام الجامعة تضاحك رجلا وطفلين على طاولة داخل المحل، نامت قطة بكل حزن تحت جدار بعيد".

ففي هذا النص، ثمة مشاهد حذفت لجهة التكثيف، لكن يمكن النظر إليها من جهة التأويل الدلالي، فبطل النص يراقب شيئا يعرفه وقد اختبر وجوده مسبقا، ويسترجع عقله الباطن تفاصيل جمعته بالفتاة التي يراقبها في تلك اللحظة وقد كونت عائلة.
وهنا لن يتوقف القارئ طويلا عند السبب الذي باعد بين البطل وحبيبته ودفعها إلى الزواج من آخر؛ لأنه سيسقط تجربته المماثلة مع من أحب يوما على هذا النص، لكن المشهد الذي تختتم به القصة يتسم بالإيحاء، فما قصة تلك القطة الوحيدة البعيدة؟ وما علاقتها بما ثار في نفس البطل من مشاعر وهو ينظر إلى الفتاة التي أصبحت زوجة وأما؟ وهل يمكن أن يكون الرجل الذي تجلس معه الآن هو نفسه البطل الذي يراقب المشهد من بعيد؟
وتنطوي النصوص على أفكار وجودية عميقة، وإن كان الكاتب يقولها ببساطة كما لو أنه ينتهج في الكتابة أسلوب السهل الممتنع، ففي نص عن “كورونا” يقول “أحيانا أشعر أن الكمامات تشبهنا، وأنها هي وجوهنا وملامحنا الحقيقية، نخفي أشياءنا ونهرب ونضطر أن نعيش بوجوه أخرى غير حقيقية”.
وفي نص آخر نقرأ “ينتهي كورونا بالموت أو الشفاء ككل قصة حب”، وكذلك “الفايروسات التي لا تجد الأجساد، كيف تقضي ليلها؟”، و”كيف أصارح الفايروس بأنني أرغب أحيانا في القتل أنا أيضا؟”.
ويستمد الشعيلي أجواء نصوصه من البيئة العمانية والطقوس الاجتماعية فيها، ويستجلي فيها المعاني العميقة عن الحياة والموت وعن الوجود، يقول “في التسعينات، رمى أحد الجيران في تنور الحارة المضرمة فيه النيران والأحلام، الحقيبة السعفية المملوءة باللحم وورق شجر الموز والشوع، بأن رجع إلى الوراء خطوات كثيرة، وجاء راكضا كقطار هادر، وقبل الحفرة بمترين أو ثلاثة رمى رميته القوية المتقلبة في الهواء والموفقة بكل إتقان. نظر إليه الجميع بانبهار وإعجاب، كيف استطاع فعلها؟ كانت لقطة العيد التي شغلت الدنيا أكثر من المتنبي. في الليل، في السهرة، سأله أحدهم عن هذا فقال: السر في الشكل الدائري، كل ما هو دائري يسهل اللعب به، أليست حياتنا دائرية؟”.
ولا تخلو النصوص من نقد طريف لبعض الطقوس والعادات، ومثال ذلك يكتب “أتعرفون؟ لو كانت لدينا سينما حقيقية لكانت هذه ثيمة لقصة رجل أصبح مليونيرا، كانت بدايته أن يعمل تمصورات للآخرين بكاميرا علوية حيث الشوارع تطارد أبناءها”، و يكتب أيضا “هل يمكن توزيع بعض عاملي التمصورة في نقاط معينة على الشوارع بحيث إذا ما تلفت التمصورة تتوجه إلى أقرب نقطة لإعادة لفها؟”.
يستلهم الشعيلي في نصوص كتابه أجواء القصص والحكايات القديمة، وينبش في الذكريات البعيدة، ويتأمل في مدينته وحارته وبيته وجيرانه، ويستحضر أغاني فيروز، وينثر ما يبدو شذرات من سيرته. يغلف كل ذلك بلغة مؤثرة ومشاهد مليئة بالحيوية، حتى ليشعر القارئ أن الكاتب يمسك بيده ويعرفه على سطح الحياة التي اختبر شعابها في موطنه عمان، وأيضا وبالقوة نفسها، على ما يشغله من أفكار عميقة في الحياة والوجود.