"نموت عليك" ميلودراما عن الاستثمار في مآسي التونسيين

صنع الممثل التونسي الأمين النهدي تجربة مسرحية كوميدية لا تشبه أحدا سواه، فقدم على مدار أربعين عاما أعمالا بقيت محفورة في ذاكرة التونسيين، لكنه غاب منذ ثورات الربيع العربي، ليعود هذا العام بمسرحية جديدة أراد أن يغيّر بها “جلده” الفني، لكنه اصطدم برد فعل الجمهور، وهو ما لم يعهده سابقا.
تونس - عاد الممثل الكوميدي التونسي الأمين النهدي، أو كما يناديه التونسيون “لمين” النهدي، لاعتلاء ركح المسرح الروماني بقرطاج بعد غياب دام حوالي سبع سنوات، حيث قدّم عمله المسرحي الجديد “نموت عليك” ضمن برمجة الدورة الـ56 من مهرجان قرطاج الدولي، وهو عمل تضاربت حوله الآراء وأثار جدلا واسعا خاصة بعد مغادرة أعداد كبيرة من الجمهور العرض منذ بدايته.
“نموت عليك” هي مسرحية من تأليف وإخراج المنصف ذويب وتنتمي إلى جنس “الميلودراما”، كما يقدمها النهدي. وهي عمل ساخر دام عرضها 90 دقيقة. وتدور أحداث هذه الميلودراما حول “عيّاش”، وهو مواطن تونسي عاطل عن العمل ومتزوّج ويعيش أوضاعا مادية واجتماعية صعبة دفعته إلى محاولة الانتحار، غير أن حادثة محاولة الانتحار جعلت منه شخصية مشهورة وبطلا وهميا بفضل سعي العديد من الأطراف -وخاصة من الأحزاب والأقليات والمتشددين الدينيين والمهربين- لابتزازه والاستثمار في انتحاره.
وتقمّص الأمين النهدي في هذا العمل ما يناهز الـ40 شخصية مختلفة، ناقدا بأسلوب هزلي ساخر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية التي عاشتها تونس بعد الثورة. وتعرّض للاستثمار السياسي والمنظماتي والديني في آلام الناس لتحقيق مغانم ومنافع ذاتية.

الأمين النهدي تقمص ما يناهز أربعين شخصية، ناقدا بأسلوب ساخر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية
وجاء النص محمّلا بالمضامين والإيحاءات والرموز ليعكس الصعوبات التي يعيشها التونسيون بعد الثورة، مثل استفحال ظاهرة البطالة وتفشي الإرهاب وارتفاع نسبة الفقر والتهميش وتدني المقدرة الشرائية وانقلاب القيم الأخلاقية في المجتمع وغيرها من المظاهر السائدة في تونس ما بعد 2011.
ولخّص الثنائي الأمين النهدي والمنصف ذويب هذه المظاهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في نعت “عيّاش”، اسم الشخصية الرئيسية في العمل، وهذا النعت يُطلق في اللهجة العامية التونسية على العمال اليوميين الذين يكدحون لكسب لقمة العيش، وهم يمثّلون اليوم فئة هامة من المواطنين التونسيين أمام الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد.
بدا “عياش” في “نموت عليك” نسخة من الأمين النهدي في أدواره المسرحية السابقة، ببنطلونه القصير وجواربه الملونة وحذائه الأسود وشعره المنكوش، فلم يقنع الجمهور الذي جاء ليشاهد أعمالا جديدة تتجاوز فترة ما قبل الثورة التونسية وحتى ما بعدها، حيث ارتبطت العشرية الأخيرة في الأذهان بالتذبذب والمشكلات السياسية التي يرغب أغلب التونسيين في نسيانها، إلا أن النهدي أصر على تذكيرهم بها.
ولم يطور النهدي أدواته، مراهنا على تمكنه من الارتجال وإتقانه الفن الذي يقدمه، لكنه ربما نسي أن الأذواق الفنية تتغير؛ فحتى زمن ما قبل كورونا لم يعد هو نفسه، وكذلك الذوق الفني، لذلك بدا عمله وكأنه يقدم لجمهور التسعينات وبداية الألفية الثالثة، الذي لم تتح له وسائل التواصل الاجتماعي ولم يطلع على أعمال مسرحية متنوعة ولم يعرف ما يستجدّ في الكثير من مناطق العالم.
واختار الأمين النهدي والمنصف ذويب أن يُنهيا العرض بالانتصار للوطن وحب الوطن أملا في غد مشرق لتونس.
وهذه المسرحية عمل عليها الثنائي منذ عام 2017، حيث أعلنا حينها عن بدء تحضيرهما لتعاون فني جديد بعنوان “نموت عليك”، بعد سنوات من حرب التصريحات والخصام الذي وصل بين الفنانين إلى حد أروقة المحاكم، وذلك بعد تميزهما في مسرحية “المكي وزكية” التي توقف عرضها جراء الخلاف رغم الإقبال عليها.
ولئن عرفت “نموت عليك” إقبالا جماهيريا مكثفا قبل العرض فإن الكثير من الوافدين الباحثين عن الضحك بدأوا يغادرون مدرجات المسرح بعد أقل من ساعة على بدء العرض. ويفسر عدد من المغادرين للمسرح ذلك “بافتقاد أداء الممثل للأسلوب الهزلي والإضحاك وسقوط الإيقاع العام للعمل في الملل”، السبب الذي لم يشدّ انتباههم ودفعهم إلى مقاطعة بقية أطوار العرض.

لئن عرفت "نموت عليك" إقبالا جماهيريا مكثفا قبل العرض فإن الكثير من الوافدين الباحثين عن الضحك بدأوا يغادرون مدرجات المسرح بعد أقل من ساعة على بدء العرض
كما برّر بعض المتابعين مغادرتهم بمللهم من الحديث عن السياسة في كل مكان حتى في الفضاء المخصص للفن، ولاسيما خلال السنوات العشر الماضية من تاريخ تونس وما حملته من مصطلحات ذات كثافة دلالية لم يعتدها التونسي في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لكنه عاش على “نغمتها” في العشرية الماضية، مثل الإسلام السياسي وحركة النهضة والإخوان وغير ذلك من المصطلحات التي رأى فيها المتفرجون مادة لا يرغبون في حضورها في كل مكان وخاصة في الأعمال الفنية والثقافية.
في المقابل رأى النهدي أنه ليس من الضروري أن يكون الضحك وسيلة التجاوب الوحيدة مع مشاهد أي عرض مسرحي، مضيفا “هناك مواقف ضحك فيها الجمهور ومن الجمهور أيضا من يتفاعل بالتركيز على مختلف مضامين العرض”. وذكر الممثل الذي يصنف على كونه رائد الكوميديا في تونس أن “العروض الأولى لمسرحياته السابقة مثل ‘المكي وزكية’ عرفت الأمر نفسه ثم تطورت المسرحية مع نسق العروض”.
وأشار إلى أن “المكي وزكية” التي عرضت لأول مرة عام 1993 قدّمت أكثر من 600 عرض على مدى سبعة مواسم، وهو ما أثار استغرابه الذي عبر عنه بقوله “لم أكن أتوقع أن يتجاوز هذا العمل موسما واحدا”.
والأمين النهدي (72 عاما) ممثل هزلي تونسي، ولد في الكاف. وشارك في عدة مسرحيات خلال سبعينات القرن الماضي، حتى صار واحدا من رواد المسرح التونسي، ومثل في سنوات التسعينات مدرسة جديدة في المسرح التونسي، وظل لما يقارب أربعين عاما متربعا على عرش المسرح الكوميدي و”الوان مان شو” في تونس، كما برز اسمه في عمل سينمائي بعنوان “فردة ولقات أختها” وكذلك شارك في عدة أعمال فنية تلفزيونية.
وجدير بالذكر أن آخر صعود للأمين النهدي على ركح المسرح الروماني بقرطاج كان سنة 2015 بعرض “ليلة على دليلة”، وهو العمل الثالث في رصيده بعد “المكي وزكية” و”هاك السردوك نريشو”.