هل يمكن إعادة تشكيل اللغة وتحريرها دون إعادة تشكيل العقل وتحريره

الاثنين 2013/08/19
ماركس وفيتغنشتاين وهايدغر: الحداثةإعادة إعادة تشكيل وتحرير للعقل والفكر

تزدحم الكتابة الثقافية العربية، وخطابات المثقفين والأدباء وحقل النقد والسجال الأدبي والفكري بعدد من المصطلحات التي استهلكت دون أن يتمكن النقاش من سبرها، وإنجاز تعريفات وخلاصات خاصة ومتفق عليها حولها، من ذلك مصطلح "الحداثة" من منظور التجربة الشعرية الذي ظل أقرب إلى الخرافة. هنا وجهة نظر من شاعر وأستاذ سوري في الفلسفة وعلم اللاهوت يدرس في جامعات الولايات المتحدة.

أسالت الحداثة ومفاهيمها وتعريفاتها في الثقافة العربية حبرا كثيرا. وفي نظري أنَّ مفهوم الـ"حداثة" بحد ذاته غربي صرف، نشأ في كنف فضاءات فلسفية وثقافية معينة في العالم الغربي، الأوروبي، مثل الداروينية والفرويدية والماركسية والوجودية بشقيها الفرنسي والألماني، وكذلك فضاءات فنية وتعبيرية هامة في مطلع القرن العشرين في الغرب، مثل السوريالية والرمزية والدادائية. أي أنها ظاهرة فكرية معرفية، وليست مجرد آليات تعبير ومنهجيات واستراتيجيات كتابة ولغة في الدرجة الأولى كما رآها بعض الشعراء العرب.

الواقع أننا في العالم العربي استوردنا تلك الحالة المعرفية المسماة "حداثة" وتعاطينا معها واستخدمناها كأداة تعبير واستراتيجيات كتابة ونصوصية محضة، بغية تحرير أنفسنا من استراتيجيات الكتابة وآليات التعبير اللغوية والفيلولوجية والنصية التي ورثناها من فضاء الثقافة العربية (ذات الطابع القرآني والترميزي في صيغتها الطاغية). بمعنى آخر، يبدو لي أننا اختزلنا الحداثة، كما نفعل اليوم بظاهرة ما بعد-الحداثة، إلى شكل دون مضمون، وإلى أداة دون بنيان ومحتوى معرفيين. من هنا أتردد كثيراً قبل أن أقول إن هناك "حداثة" في الشعر العربي، أو أن الشعر العربي يشهد الآن مرحلة ولوج إلى حالة "ما بعد-حداثة". أعتقد أنه لن يكون عندنا حداثة شعرية عربية حقاً، ما لم نتفاعل مع أطروحات "الحداثة" الغربية الفكرية والمعرفية، ونتوقف عن مجرد التعامل معها كأدوات ووسائل فقط. هذا ما لم نفعله بعد على أي مستوى ثقافي أو فكري حقيقي في العالم العربي، فكيف على المستوى الشعري.

استهلاكيون

نحن مازلنا استهلاكيين في ثقافتنا ولم نصبح بعد تفاعليين. في الشعر، بدّلنا من أدواتنا التعبيرية بطريقة فتحت آفاقا جديدة وجميلة وخلاقة في فضاء اللغة. لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة خلق فكر ومخيال عربيين جديدين مختلفين وحداثويين أو ما بعد-حداثيين بالمعنى المعرفي للكلمة.

والسؤال هنا هو: هل يكفي إعادة تشكيل اللغة وتحريرها دون إعادة تشكيل وتحرير العقل والفكر اللذين يلعبان بـ"لعبة اللغة" المذكورة (ها هنا نستعير مفردة من لودفيك فيتغنشتاين). ولو تحدثت انطلاقا من تجربة شخصية، ففي كتاباتي الشعرية، لا أجعل همي الأول إعادة صياغة اللغة والتراكيب الفيلولوجية والتعبيرية، بل أحاول أن أقدم على أجنحة لعبة اللغة أبعادا فكرية ومعرفية جديدة تأخذ القارئ، إن أمكن، خارج إطار آليات التفكير والتعرُّف التقليدية.

على سبيل المثال، أواظب في قصائــدي على التحدث مع الله أو عنه، بطريقة لا تتــوخى بالضرورة تعابير لغوية أو اصطلاحات تعبيرية جديدة، بل تسعــى لخلق مخيــال معرفي ووجــودي جديــد عن شخصيــة الله وماهيتــه ودوره في الحيــاة البشرية ،لا بل صفات علاقته معنــا وصفاتــه هــو بذاته. هذا بالنسبة إلي ليس مجرد تحديث للغة، بل محاولة خلق علاقة معرفية جديدة مع أحد أكثر المفاهيم مركزية في العقل والشخصية العربيين.

الشعر ومفهومه

أفهم الشعر من زاوية فلسفية ووجودية محضة، أكثر منها أدبية أو لغوية. أوافق على فهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر(1889 - 1976)، للشعر وماهيته، ولم أجد حتى الآن مفهوما آخر يقنعني، ويتواصل مع تفكيري في الشعر وتفاعلي مع ما أقرأه من إبداعات شعراء آخرين. سبق لي ونشرت مقالاً بعنوان "الشعر والضيق" منذ عامين ونصف العام، تحدثت فيه عن فهم هايدغر للشعر.

باختصار شديد، ينظر هايدغر إلى الشعر كرحلة تبدأ من عمق الكينونة البشرية التي يشترك فيها الشاعر مع أقرانه من البشر وتنتهي بتجلّي ذلك الكيان واقعياً وحقاً بطريقة تعبّر عن حضور تلك الكينونة في التاريخ.

الشعر، أنطولوجياً، هو جَسرٌ للذاتي مع الموضوعي، للكيان الجوهري الجامع مع الحضور الوجودي الخاص؛ حالة تجلٍّ للحقيقي وحالة تجلٍّ حقيقي للحاضر ولما سيكون.

يعني هذا لهايدغر أنَّ الشاعر مثل قارئ شعره يتواجه في سرده الشعري بحالة تجلٍّ كيانية تكشفه أمام ذاته، إلا أنها تتجاوزه أيضاً وتدهشه، لا بل وقد تخيفه وتتحداه، لأنها ليست مجرد حضور لغوي، بل انكشاف لحالة توق إنساني لا نهائي إلى الوجود، في شكل ديناميكي حي في التاريخ، ذاك التوق الذي يكمن وراء الشعر ويؤسِّس له.

الشعر إذاً رحلةُ ذاتٍ في التاريخ، وليس محاولة هروب من الواقعي إلى الخيالي، أو من الفكر الواضح إلى التمويه والوهمي والرمزي بالضرورة. هكذا أفهم الشعر: فرصة لتفاعل الشاعر مع حضوره كإنسان في التاريخ وتعبيره عن هذا الحضور بشكل عميق ووجودي يجعل من يقرأ القصيدة التي يكتبها يرى فيها مرآة تصور للرائي حالة حضور كينوني بشري يعيشها ويختبرها في حياته، بحيث تخرج القصيدة المكتوبة من دائرة حياة الشاعر اليومية الضيقة والخاصة لتسبح في فضاء دائرة الحياة البشرية المشتركة بين كل البشر، لتعبر عن كينونة إنسانية يمكن لكل إنسان أن يرى فيها بعداً من أبعاد ذاته الوجودية.

هايدغر يقول إن هذا فقط ما يجعل القصيدة "شعراً" بالمعنى الحقيقي للكلمة، بأن يحررها من دائرة الذاتي والشخصي الضيقة التي انبثق منها وينفتح لها على التاريخي والإنساني الواجب وصولها إليهما.

دور الشعر لا أن يقدم لنا معنى جاهزاً مضمراً في قلب النص، بل أن يدعونا إلى البحث عن معانٍ ومغازٍ تكمن في دواخلنا كقراء، يساعدنا النص الشعري المقروء على اكتشافها والتلاقي معها.

لا يكمن الشعر في المعنى الذي يحمله عن كاتبه إذاً، بل في ما يساعدنا على فهمه من معانٍ جمة عن إنسانيتنا وكينونتنا البشرية كقراء. حين يلعب النص هذا الدور يصبح "شعراً" بالنسبة إلى قارئه، إذ لا يوجد نص يمثل شعــراً بحد ذاته بعيــداً عما يقدمه للقــارئ.

15