الفلاح الذي قطع الموّال

لقد صار الريفيون سيئين لأنهم وُضعوا في مكان غير مكانهم وكانت ثقافتهم سببا في خراب الثقافة المدينية.
السبت 2022/07/16
لكل شعب عاداته المتأصلة

الريفيون ليسوا سيئين ولا الثقافة الريفية سيئة

كنا مع الشاعر العامي المصري عبدالرحمن الأبنودي قد وقفنا “تحت الشجر يا وهيبة/ ياما كلنا برتقال”، ورددنا مع عبدالحليم حافظ “أنا كل ما أقول التوبة”، وغررت بنا فايزة أحمد بـ”مال عليّ مال”، وذوبتنا شادية في “آه يا أسمراني اللون”، ونسفت وردة كل شكوكنا في “طبعا أحباب” من غير أن نمر بالأغنية الوطنية الأكثر رشاقة في ثقافتنا السياسية “عدّى النهار” التي غناها عبدالحليم حافظ كما لو أنه يكشف عن أسرار الدولة الناصرية.

 لم يكن الأبنودي سيئا حين ملك القلوب بثقافته الريفية، لأن الشعر كان بوصلته.

وللشعر لغته الخفية التي تحرك المشاعر من الداخل بغض النظر عن نوع الكلمات. أما الثقافة الريفية فإنها تكون سيئة حين تجتاح المدن.

 يكون الريفيون سيئين حين يتزعمون الانقلابات العسكرية ويتحولون إلى زعماء. لا ينفع حينها أن يُقال “محلاها عيشة الفلاح” في الدعوة إلى ما سُمي بالهجرة المعاكسة.

لقد غزى الريفيون المدن لا بثقافتهم الناعمة، بل بسبل عيشهم وتفكيرهم وطموحاتهم التي مهدت لعصر اليأس وهو ما أتاح الفرصة لأغنية سقيمة مثل “لا خبر، لا جفية، لا حامض حلو، لا شربت” للعراقي فاضل عواد أن تجتاح المرابع الليلية في غير عاصمة عربية باعتبارها نقلة في الغناء العراقي بعد ما كان العرب قد أبحروا في العيون السود مع ناظم الغزالي في رائعته “يم العيون السود”.

 كان الغزالي ابن مدينة لم يهجرها سكانها ولم يتم استضعافهم فيها بعد. غير أنه غنى “خايف عليها” وكان محقا.

لقد ذهبت مدينته إلى العدم ولم يعد أحد يتذكرها إلا بطريقة رمزية.

لم يتمكن الريفيون من تطوير الغناء البغدادي وهم الذين لا يملكون الصبر على الإنصات إلى يوسف عمر وهو واحد من أعظم قراء المقام العراقي. لقد ظلم الزمن الريفيين حين مكنهم من القفز على أعظم ما أنجزه العراقيون في تاريخهم العاطفي. وهو ما لم يفعله الأبنودي في زمنه.

ضحك المصريون مع الزمن فيما بكى العراقيون. لكل شعب عاداته المتأصلة.

لقد صار الريفيون سيئين لأنهم وُضعوا في مكان غير مكانهم وكانت ثقافتهم سببا في خراب الثقافة المدينية.

كان من حقهم أن يعيشوا حياة أفضل لكن تلك الحياة الأفضل كان ثمنها أن تقول شريفة فاضل “فلاح كان فايت بيغني من جنب السور/ شافني وأنا بجمع كم وردة بطبق بنور/ قطع الموال/ وضحكلي وقال/ يا صباح النور/ يا أهل البندر” لقد استسلم أهل البندر للغناء الريفي فضاع غناؤهم بل ووجودهم.

20