الغرب يخاف من "اختفاء المستقبل" وانتهاء المبدعين

المؤرخ البريطاني أدريان وولدريدج: المجتمعات الغربية تعاني مجاعة في العقول والإبداع.
الجمعة 2022/07/08
نجاح فيلم «توب جن: مافريك» دليل على غياب الإبداع

إذا سألت أيا كان عن أحد المبدعين المهمين فسيجيبك باختيار اسم من الماضي لا الحاضر، ولهذا تفسيرات كثيرة تتجاوز مسألة الحنين، بل تشير إلى تقلص في مستوى الابتكار والإبداع وانتشار الأفكار المكررة والمواد الفنية الاستهلاكية، وغياب التجارب التي يمكنها فعلا التأثير في مجتمعها.

لندن - إذا كانت المجتمعات يمكن أن تعاني من مجاعة البطون فإن مجاعة العقول التي يمكن أن تواجهها تبقى آثارها المدمرة أعمق، فعندما تتقلص قدرة هذه المجتمعات على الإبداع والابتكار في مختلف مناحي الحياة، فإن ذلك يؤثر سلبا على قدراتها الاقتصادية التي تتغذى على الابتكار والأفكار الجديدة.

ويمكن القول إن المجتمعات الغربية وبعد قرون من تقديم نفسها باعتبارها قوة الإبداع والابتكار الدافعة للبشرية منذ عصر التنوير، دخلت حاليا مرحلة مجاعة العقول والإبداع على حد قول الكاتب والمؤرخ البريطاني أدريان وولدريدج.

تراجع الإبداع

أدريان وولدريدج: الأكاديميون ينظرون من عدسة مكبرة بدلا من التليسكوب

يرى وولدريدج في تحليل نشره أخيرا أن تصدر فيلم “توب جن: مافريك” للنجم الأميركي توم كروز لشباك التذاكر في العالم هو دليل واضح على نضوب الأفكار والإبداع لدى الغرب، لأن هذا الفيلم مجرد جزء جديد من فيلم شهير تم إنتاجه عام 1986، كما أن الناشرين ينتظرون ظهور كاتب جديد على غرار مالكولم جلادويل الذي أصدر ستة كتب احتلت رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعا وفقا لتصنيف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

في المقابل فإن السياسيين في الغرب غارقون في قضايا من الماضي، بدءا من الحق في الإجهاض وحتى الإجراءات الاستعمارية الجديدة لبريطانيا. كل هذا مؤشرات على نضوب العقل المبدع والمبتكر لدى الغرب.

 وأشهر المبدعين في الوقت الراهن شخصيات من الماضي. قد يبدو هذا القول انطباعيا، لكن هناك أدلة كمية تشير إلى تراجع الأفكار المبتكرة حاليا. فإحدى الدراسات أظهرت تراجع الإنتاجية البحثية بشدة في مجالات البرمجة والطب والزراعة. كما أظهرت دراسة ثانية أن متوسط عمر الحاصلين على جوائز نوبل يرتفع بشكل مطرد. وأظهرت دراسة ثالثة ارتفاع متوسط السن الذي ينشر فيه الباحث أول مقالة بحثية له في المطبوعات المرموقة. فبعد أن كان الباحث ينشر مقالته الأولى في سن الثلاثين في المتوسط عام 1950 ارتفع السن إلى 35 سنة 2013.

 ويقول وولدريرج الحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أوكسفورد إن الباحثين الأميركيين يجرون منذ منتصف ستينات القرن الماضي ما يسمى “اختبار تورانس للتفكير الابتكاري”. وأجرى كيونج هي كيم تحليلا لبيانات هذه الاختبارات ليجد أن المقاييس المختلفة للإبداع والأصالة كانت ترتفع بما يتناسب مع متوسط نتائج اختبارات الذكاء حتى عام 1990 وبعد ذلك بدأت المقاييس تتراجع.

وقال كيونج هي كيم إن نتائج دراسته “أشارت إلى تراجع التفكير الابتكاري بمرور الوقت بين الأميركيين من مختلف الأعمار وبخاصة الصغار في مرحلة رياض الأطفال. وهذا التراجع مطرد ومستمر”.

على المؤسسات الأكاديمية تحفيز الطلاب للتركيز على حل مشكلات مجتمعهم بدلا من تكديس المعلومات داخل العقل

والآن كيف يمكن أن نفسر هذا التراجع في الخيال؟ عدد الذين يعيشون في المدن الآن أكثر من أي وقت مضى، وهي محرك مفترض للإبداع كما أن عدد الملتحقين بالجامعات كبير. والشركات الكبرى مثل غوغل وفيسبوك ترصد المليارات من الدولارات لكي تبتكر المستقبل. وكل جهاز كمبيوتر شخصي يحتوي على كل الأدوات المطلوبة لتأليف كتاب.

أحد تفسيرات هذا التراجع يتمثل في العبء المطلق للمعرفة، وعواقب دكتاتورية التخصص العلمي. فالأكاديميون يقضون وقتا أطول من ذي قبل للوصول إلى حدود المعرفة، وعندما يصلون إليها في نهاية المطاف فإنهم يميلون إلى النظر من عدسة مكبرة بدلا من النظر عبر التليسكوب.

 ويستخدم الألمان عبارة مثيرة للغاية لوصف هذا التدهور وهي “اختفاء المستقبل” حث يرى 80 في المئة من الآباء الألمان أن أطفالهم سيكونون أسوأ منهم، مقابل ما بين 80 في المئة و15 في المئة من الفرنسيين يرون ذلك، وما بين 76 و15 في المئة من اليابانيين وما بين 61 و19 في المئة من الإيطاليين وما بين 57 و33 في المئة من الأميركيين يرون أن مستقبل أطفالهم سيكون أسوأ منهم. كما أن الشباب بشكل خاص يشعرون بالتشاؤم بشأن التنوع الليبرالي مثل الديمقراطية وحرية التعبير.

فهل هناك ما يمكن عمله لتحسين قدرة العالم على تخيل مستقبل مرغوب؟

إعادة بناء العقل

الأجيال الجديدة يتقلص فيها الإبداع تدريجيا
الأجيال الجديدة يتقلص فيها الإبداع تدريجيا

هناك كتاب جديد للمؤلف جوف مولجان بعنوان “عالم آخر ممكن: كيف نعيد إشعال جذوة الخيال الاجتماعي والسياسي”، مليء بالأفكار. وهذا الكاتب البريطاني مخضرم في هذا العالم من مختلف الاتجاهات. وقد عمل رئيسا لوحدة التخطيط الاستراتيجي في حكومة رئيس الوزراء توني بلير، ثم مسؤولا عن التخطيط السياسي. وكان رئيسا تنفيذيا لمؤسسة نيستا المعنية بالابتكار في بريطانيا، ثم لمؤسسة يونج. وهو الآن أستاذ للذكاء الاجتماعي والسياسة العامة والإبداع الاجتماعي في كلية لندن كويدج.

وفي الكتاب يطرح مولجان نقاط الضعف لدى الغرب ومفكري المستقبليات. ويتحدث عن قضاء فترة من الوقت في معبد بوذي عندما كان عمره 17 عاما، ويمتدح حكمة شعوب ما قبل الثورة الصناعية. لكنه يطرح أيضا في الكتاب العديد من النصائح المستمدة مما سماه “رحلة العمر في تحويل المثاليات إلى حقيقة”.

ويضيف مولجان في الكتاب أنه يجب بناء الجسور بين العوالم المختلفة. ويتعين على طلاب الجامعات التركيز على حل مشكلات المجتمع الذي توجد فيه الجامعة بدلا من تكديس المعلومات داخل العقل. ويجب التفاعل مع الأفكار الممتدة، تماما كما ازدهر الليبراليون الجدد من خلال دفع الأسواق إلى مجالات جديدة، وكما يزدهر التقدميون من خلال إعادة تعريف الشخصية الاعتبارية لتشمل الكيانات الطبيعية. كما يجب تعلم كيفية نسيان الأشياء على أساس “النسيان لا التعلم” هو الحقيقة، هو الحيلة الحقيقية والصعبة للغاية، على حد قول دي وورد هوك مؤسس شركة فيزا لأنظمة الدفع الإلكتروني والذي جعل المؤسسة المصرفية عبارة عن شبكة من البرتوكولات، وليست مؤسسة تحددها المباني المادية، مطلقا ثقافة جديدة.

ويقول مولجان “دعونا نبني الجسور الفكرية بكل المعاني، ونجري تحقيقات بشأن المستقبل، وننشئ متاحف المستقبل، ونعيد بناء عقولنا، ونقوم بكل الأمور المعقولة. لكن وولدربرج يقول إنه لكي نعيد إشعال جذوة الخيار السياسي والاجتماعي، نحتاج إلى القيام بما هو أكثر من ذلك. نحتاج إلى إحياء روح الليبرالية الكلاسيكية، وتطبيقها على الظروف الجديدة. وهذا سوف يحتاج إلى معركة متلاحمة مع أقوى المصالح المكتسبة في مجمع المعرفة الصناعي”.

13